وسائل التواصل الاجتماعي: كبرى المصائب من حيث ندري أو لا ندري!!
الهاتف الذكي الذي أصبح امتلاكه يتقدّم على كل الأولويات، حتى أن فقراءنا يقترضون فيُثقِلون كواهلهم من أجل اقتنائه، لا يشكل مصيبة؛
الانتشار الرهيب للحواسيب المحمولة والثابتة، والتي أصبحت بأبخس الأثمنة منذ أن أصدر المرحوم الملك الحسن الثاني أمره بإعفاء واردات التكنولوجيا المعلوماتية من الضرائب والجبايات، لا يُشكّل بدوره مصيبة؛
تَحَوُّلُ الناس، كل الناس بلا استثناء ما عدا المُعْدَمون مادياً، إلى كائنات منحنية الظهر، معقوفة الرقبة، جاحظة العينين، فاقدة الوعي أو تكاد، في الشارع العام، في الباص، في سيارات الأجرة، في الحدائق والمنتزهات، وحتى في فضاءات العمل والإنتاج، وهي تتابع ما تبثه هواتفها الذكية غير آبهة بما يقع حولها… كل هذا لا يُمَثّل أيضاً مصيبة!!
المصيبة العظمى، والآخذة بخناقنا، من حيث نعلم أو لا نعلم، هي ما تبثه هذه الوسائل التكنولوجية من موضوعات لم تعد صادرة عن علماء، أو أدباء، أو متخصصين في مجالات التربية والتكوين والتأهيل، أو في ميادين الإخبار والتحليل والتنوير… بل صارت تصدر عن عيّنات طفيلية تطفّلت على كل المهن والتخصصات والخبرات والعلوم والمعارف، فتكلّمت في كل المجالات بغير علم، ولا تخصص دراسي، ولا سابق خبرة، لمجرد إمساكها لوسيلة تكنولوجية تمنحها فرصة مخاطبة الآخرين بلا أدنى حواجز أو ضوابط، ولمجرد توفّرها على إمكانية امتلاك قناة، أو قنوات، تبث فيها ما تراه دون أدنى استيفاء لشروط المخاطبة بدءاً باللغة الفصحى، التي لها مقاييسُها الموضوعية والفنية والبلاغية، ومروراً بتوفّر المعرفة اللازمة بالموضوع المطروق، مع وضع اليد على مصادره الموثوقة، وانتهاءً بوجود غايات واضحة يُراد تحقيقُها، وأهداف جلية ينبغي إصابتها…
كل هذا لا يتوفر كُلاً، ولا بعضاً، لذلك النوع من المتكلمين في كل شيء، وفي لا شيء، وبالرغم من ذلك، نراهم يتكلمون ليل نهار في موضوعات لا تعد ولا تحصى، يبثّون فيها أخباراً بلا مصادر، ويُدلون حولها بتحليلات واستنتاجات لا يربط بينها أيُّ خيطٍ ناظم، والأدهى من كل ذلك والأمَرّ، أنهم مُجْمِعون تلقائياً، ومن غير أن يعرف بعضُهم بعضاً، على مطالبة متتبعيهم “بالضغط على زر الإعجاب”، “جيم”، و”الاشتراك في القناة لكي يصلهم كل جديد”، و”ترك تعليقات بنّاءة”… ويطلبون ذلك من متتبعيهم بالإجماع قبل حتى أن يشرعوا في بث مواد حلقاتهم، التي حطّمت في كمّها المُهْوِل وكَيْفِها النشاز، والساقط في أغلب الحالات، كل المقاييس، فاستحقت جميعها أن تُسجَّل بمداد من ذهب في كتاب “غينيس” للأرقام القياسية، تحت بند “التُّرَّهات”، أو “الإسفافات”، أو أيّ مُسمّى آخر يفي بالغرض في وصف هذه الضحالة!!!
النتيجة/المصيبة، ظهور عناوين بالبنط العريض في واجهات تلك القنوات لا معنى لها على الإطلاق، منها مثلا:
– “اللاعب فلان يهز العالم بتصريح مفاجئ”(!!!)، فأي تصريح يمكن ان يطلقه لاعب فيهز به العالم؟! منتهى الغباء!!!
– “هذا دعاء يهتز له عرش الرحمن” (!!!)، وهل للرحمن سبحانه وتعالى عرش كعروش البشر حتى يتسنى له أن يهتز لدعاء ينطق به بشر؟! أليس العرش الإلهي مجرد رمز للحكم، كما هو الكرسي رمز للمُلك، وبالتالي فكلاهما يرمزان إلى مجردات يستحيل تجسيمها إو تشبيهها لأنها ليست مطلقاً كعروش وكراسي وأشياء البشر؟!!
– “فرنسا تنبطح أخيرا للمغرب” (!!!)، وأي انبطاح يمكن أن تقوم به دولة مثل فرنسا، العضو في مجلس الأمن، والمتمتعة بحق الفيتو، عند قدمي دولة صاعدة كالمغرب، تأمل بالكاد أن تحافظ فرنسا على حيادها الإيجابي في تعاطيها مع قضيتنا الوطنية الأولى، أثناء مداولات مجلس الأمن، أو الخروج بشكل أو بآخر من المنطقة الرمادية، حتى والعالم كله يعلم أن فرنسا، ذاتَها، هي المسؤولُ الأول والأخير عن وجود هذه القضية شائكةً وعصيةً على الحل، وأنها هي التي توظف الجزائر لتُبْقيها حجرَ عثرةٍ في طريق أي حل سلمي يرضي جميع الأطراف؟!!
هذه مجرد نماذج لذلك النوع الساقط من العناوين، التي تكاد تفضح ضحالة المحتوى “من باب الدار”!!!
الغريب والخبيث في أعمال تلك القنوات، أن أصحابها ومنشّطيها لا يجدون حرجا في قرصنةِ صور مشاهير ووضعِها في واجهاتها دون أن يكون لأحد هؤلاء المشاهير أي علاقة بالموضوعات المطروقة، والهدف، فقط لا غير، أن يفتح الزوار صفحات القناة بأي ثمن، ما دام المراد غير البَيِّن هو رفع أرقام المشاهدين، والسعي من وراء ذلك لاقتناص بعض الوصلات الإشهارية المدرة لبعض الأرباح المالية الآنية… أما مستقبل العلاقة مع المشاهدين فلا يدخل في دائرة اهتمام هذه الطفيليات الإعلامية، ولذلك نجد أرقام الزوار تنخفض بسرعة البرق، مع توالي الحلقات، بعد أن يكتشف الزوار أنهم كانوا ضحايا عملية نصب إعلامي يُسَوّق الكذب، ويبثً المنقول والمسروق، وينشر سخافات لا تنطلي سوى على البسطاء وضعاف العقول والنفوس، وهؤلاء للأسف الشديد هم الذين يشكّلون السواد الأعظم من مستعملي الهواتف الذكية والانترنت، يبدو ذلك جليا من هُزال التعاليق التي يقتصر معظمها على أدعية فارغة، أو على ترديد شعارات خشبية لا داعي لذكرها…
نعم… للأسف الشديد!!!
مصيبتٌنا إذَنْ عُظمى في وسائلنا التواصلية الاجتماعية، ويكفي القول لوصف هذه المفارقة، غير الهيّنة، إن حوالي 0.1 في المائة من القنوات التي تملأ الساحة التواصلية، عبر اليوتيوب، وصفحات الفيسبوك، والتيك توك، والانستغرام، وتويتر، ولنكد إن، وغوغل بلوس، وريد إت، وبينترست… كنت أقول، إن نسبة 0.1%، وربما أقل من ذلك، هي التي يمكن أن نصفها بالوسيلة الإعلامية الفاعلة والمفيدة والقادرة، عملياً، على الإتيان بقٍيَم مضافة إلى ساحة إعلامية تجمدت فيها عروق الصحافة الورقية، وتهلهلت فيها وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، لحساب صيحات تكنولوحية لا تفتأ تتطور وتتعملق وتتنمّر على مدار الأيام، بل الساعات، بل الدقائق!!!
السؤال المطروح، الآن، هو “ما الذي يمكن أن تفعله مؤسسة دستورية كالهيأة الوطنية للسمعي البصري لتخليق هذا الفضاء التواصلي، شديد الحيوية والخطورة لأنه، أردنا ذلك أم أبيناه، حل نهائيا محل المذياع، والتلفزيون، والجريدة، والمجلة، والكتاب… بل حل محل آباء كثيرين تركوا أطفالهم لقمةً سائغةً بين أنياب هذه الوسائل التكنولوجية الجبارة، فما بالنا وقد طغت فيها وهيمنت عليها، كما سبق القول، المتردّية والنطيحة وما أكل السَّبُع”؟!
ذاك هو السؤال!!!