المحاكمة عن بعد في زمن كورونا ودور القضاء في احترام قرينة البراءة

المحاكمة عن بعد في زمن كورونا ودور القضاء في احترام قرينة البراءة

مقدمة

تعتبر قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة تنتهي بصدور حكم وفقا للقانون الموضوعي والإجرائي داخل آجال معقولة من طرف هيئة قضائية مستقلة من المبادئ المصقولة من ذهب بمقتضى دستور 2011،

 فالمرجعية الدستورية لهذه المبادئ جعلتها ترتقي إلى قمة هرم الضمانات القانونية التي يتمتع بها المتهم والتي تلقي على عاتق القاضي التزاما دستوريا بضمانها والسهر على عدم انتهاكها لأي سبب من الأسبابوتحت أي ظرف من الظروف باعتباره حامي حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، غير أن تطبيق آلية المحاكمة عن بعد في سياق التدابير الاحترازية التي أقرتها السلطات المكلفة بالعدل تعزيزا للسلامة الصحية لنزلاء المؤسسات السجنية ولكافة مكونات أسرة العدالة ووقايتهم من انتشار جائحة كورونا، وبعد مرور أكثر من شهرين على تفعيل هذه التقنية، حق لنا أن نتساءل حول مدى احترام المحاكمة عن بعد لقرينة البراءة التي تعتبر أحد أهم أعمدة بناء المحاكمة العادلة ؟ خاصة بعد أن أصدر المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج مذكرة رقم 47 بتاريخ 20 ماي 2020 والتي من ضمن ما تضمنته تمديد المنع المؤقت لإخراج السجناء للمحاكم إلى غاية 27 يونيو 2020 ، وبعده توجه اللجنة المركزية الرباعية بالاستمرار في المحاكمة عن بعد إلى غاية فاتح شتنبر، وكذلك وهذا هو الأهم للحق المخول للمتهم في الاعتراض على المحاكمة عن بعد.

اولا- تكريس المحاكم المغربية لحق المتهم في رفض المحاكمة عن بعد تعزيزا لضمان المحاكمة العادلة:

كما هو معلوم فإن المحاكمة عن بعد تشكل خرقا لمبدأ الحضورية المنصوص عليه في المادة 312 من قانون المسطرة الجنائية لذلك نجد أن كل محاكم المملكة ومنذ الشروع في هذه التقنية وبمجرد تحقق الرئيس من هوية المتهم يتأكد من قبوله وأيضا دفاعه لهذه الآليةوكلما رفض المعني بالأمر أو دفاعه المحاكمة عن بعد وتشبث بحقه في الحضور إلا وأجلتالقضية لما بعد رفع الحجر الصحيورفع المنع المؤقت لنقل السجناء، لكونالحق في الحضور مقرر قانونا، في حين أن المحاكمة، عن بعد تبقى مجرد تدبير استثنائي فرضته جائحة كورونا وغير مقررة بنص خلافا لبعض الدول كفرنسا وتونس، ومن جهة أخرى لكونمبدأ الحضورية مقرر لفائدة المتهم لارتباطه بضمانات المحاكمة العادلة وما يشكله عدم حضوره جسديا لقاعة الجلسة من مس بمبدأ تكوين قناعة القاضي الجنائي الذي يحكم خلافا للقاضي المدني بحسب اقتناعه الصميم واستنادا على حجج عرضت أثناء الجلسة ونوقشت شفويا وحضوريا، دون أن ننسى المعيقات اللوجستيكية المرتبطة بضعف صبيب الأنترنيت واحتمال انقطاع الاتصال بين قاعة الجلسات والمؤسسة السجنية وجودة الصوت والصورة، مع ما يترتب عن ذلك من ارتباك في مناقشة وبحث القضية وانعكاسها على شروط المحاكمة العادلة.

فبتكريس المحاكم المغربية لحق المتهم في رفض المحاكمة عن بعد تكون علاوة على ضمانها للحق في المحاكمة العادلة قد احترمت الشرعية الجنائية الإجرائيةالتي تشكل الشق الثاني من مبدأ الشرعية،فالفقـــه مستقر على أن الشرعية الموضوعية الجنائية المعروفة بمبدأ “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص” لا تكفي لحماية حريات وحقوق المتهـمإذا كان في الإمكان اتخاذ إجراءات من شأنها المساس بهما لمجرد افتراض إدانته باعتبار أن البراءة هي الأصل، مما جعل الشرعية الإجرائية ينبغي أن تكون متلازمة مع الشرعية الموضوعية للقول باحترام أي نظام قضائي للشرعية الجنائية.
فالشرعية الإجرائية التي تفرض أن يكون التشريع وحده هو مصدر جميع الإجراءات الجنائية التي تتخذ ضد المشتبه فيهم، جعلت المحاكم المغربية سواء على مستوى المحاكم الابتدائية أو محاكم الاستئناف تشعر المتهم بحقه في قبول المحاكمة عن بعد غير المقررة بنص قانوني أو رفضها لعدم جواز إقرار أي مقتضى إجرائي بدون نص قانوني نتيجة أي ظرف من الظروف ولو كاناستثنائيا كوباء فيروس كوفيد 19لما في ذلك من مساس بالشرعية الإجرائية في شقها المتعلق بالمحاكمة الجنائية التي تقبل الطعن في شرعيتها ومشروعيتها القانونية،إذ رغم وجود غطاء قانوني لإجراء المحاكمة عن بعد في فرنسا استنادا للمادة 71-706 من قانون المسطرة الجنائية الفرنسي، فالمجلس الدستوري في قراره الصادر بتاريخ20/9/2019 أقر بعدم دستورية إجراء التقاضي عن بعد دون موافقة المعتقل، وفي مقابل حق المتهم ودفاعه في رفض تقنية المحاكمة عن بعد، فإن موافقته الصريحة تشكل تنازلا منه عن حقه في التمسك بالبطلان لعدم الحضور لأنه مقرر لمصلحته.
فضمانا للحق في الحياة والحفاظ على الصحة والسلامة المكرسين دستوريا وبقبول المتهم للمحاكمة عن بعد التي فرضتها جائحة كرونا كوفيد 19 واحتراما لقرينة البراءة بالإسراع في محاكمة المتهمين داخل آجال معقولةتكون تقنية المحاكمة عن بعد بالنسبة للمتهمين الذين قبلوا بها ليس فيها أي مساس بقواعد المحاكمة العادلة، والتجربة أثبتت نجاعة اعتماد السلطة القضائية لهذه الآلية بالنظر لعدد القضايا التي تم تصريفها وعدد المعتقلين الذين قبلوا الاستفادة منها.
وإذا كانت المحاكمة عن بعد بالنسبة للمتهمين الذين قبلوا بها ليس فيها أي مساس بالمحاكمة العادلة، فإن الإشكال يطرح بخصوص الرافضين لهذه التقنية والذين يتم تأخير ملفاتهم عدة مرات في انتظار رفع الحجر الصحي ورفع المنع عن نقل السجناء من المؤسسات السجنية، وهو التأخير الذي سيستمر إلى ما بعد الرجوع للسير العادي للمحاكمة بالحضور الشخصي المقرر خلال بداية شتنبر، مع ما سيترتب عن ذلك من بقاء هذه الفئة رهن الاعتقال بدون محاكمة لمدة طويلة، فهل يستطيع القضاء المغربي التوفيق بين حق هؤلاء في رفض المحاكمة عن بعد كآلية فرضتها جائحة كورونا كوفيد 19 حماية للحق في الحياة وحفظا للصحة والسلامة وبين احترام قرينة البراءة ؟

ثانيا- دور القضاء في حماية قرينة البراءةوالحق في الحصول على حكم داخل أجل معقول في انتظار الشرعية الاجرائية للمحاكمة عن بعد:

إن بقاء المتهمين أو المشتبه فيهم الرافضين للمحاكمة عن بعد رهن الاعتقال الاحتياطيفي انتظار رفع الحجر الصحي ورفع المنع المؤقت عن نقل السجناء للمحاكمسيجعل من مقام هذه الفئة رهن الاعتقال بدون محاكمة يتجاوز ثلاثة أشهر وقد يصل إلى ستة أشهروهي مدة اعتقال طويلة تهدم قرينـة البـراءةبالنظر للتهم المتابعين بها لدى المحاكم الابتدائية باعتبارها تبقى مجرد جنحة ضبطية أو تأديبية ،فالفصل 119 من الدستور يعتبر كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة بريئا إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به ، غير أن بقاء الشخص رهن الاعتقال بدون محاكمة طيلة هذه المدة لمجرد الاشتباه في ارتكابه جنحة ضبطية أو تأديبية فيه مساس بهذه القرينة، إذ من غير المقبول منطقا ولا قانونا قضاء شخص كل هذه المدة رهن الاعتقال الاحتياطي وبعد محاكمته يحصل على البراءة أو عقوبة تقل عن مدة اعتقاله.
فضلا عن هذا التعدي على قرينة البراءة فإن استمرار اعتقال هذه الفئة احتياطيا لأكثر من ثلاثة أشهر في انتظار محاكمتهم يخالف من جهة أخرى قاعدة دستورية تعتبر من أعمدة المحاكمة العادلةوهي حق كل شخص في الحصول على حكم داخل آجال معقولة، وكيف لنا الحديث عن آجال معقولة للمحاكمة التي تتجاوز ثلاثة أشهر وقد تصل إلى ستة أشهر ؟ وهي مدد طويلة بالمقارنة مع ما هو مقرر في المواثيق الدوليةأو القوانين الإجرائية المغربيةكما هو الشأن بالنسبة للمادة 385 من قانون المسطرة الجنائيةالتي أوجبت على السيد وكيل الملك في حالإصدار أمر بإيداع المتهم بالسجنإذا تعلق الأمر بالتلبس بجنحة معاقب عليها بالحبسأو إذا لم تتوفر في مرتكبها ضمانات كافية للحضور تقديمه للمحاكمة داخل أجل ثلاثة أيام، كما أن المشرع الإجرائي جعل أقصى مدة بقاء المتهم رهن الاعتقال الاحتياطي خلال مرحلة التحقيق الإعداديهي ثلاثة أشهر بالنسبة للجنح بعد التمديد لمرتينلأن المدة المقررة أصلا هي شهر واحد فقط.
فانطلاقا من أقصى مدة للاعتقال الاحتياطي بالنسبة للجنح في قانون المسطرة الجنائية المغربيوهي ثلاثة أشهر المقررة أثناء التحقيق الإعدادي، يمكن القياس عليها للقول بأنها أقصى مدة يمكن أن يبقى فيها شخص رهن الاعتقال الاحتياطي بدون محاكمة، علما أن مرحلة التحقيق تتعلق بالبحث عن الحجج وجمع الأدلة والتي تتطلب وقتا أطول من المحاكمة للوصول للحقيقة ومع ذلك قيد المشرع الإجرائي قاضي التحقيق بعدم إبقاء المشتبه فيه رهن الاعتقال الاحتياطي أكثر من ثلاثة أشهر في الجنح استحضارا لقرينة البراءةفألزمه إذا لم يتخذ أمرا بانتهاء التحقيق خلال مدة ثلاثة أشهر أن يطلق سراح المتهم بقوة القانون ، لذلك سيكون من الأولى أن لا يتجاوز بقاء مشتبه فيه متابع من أجل جنحة رهن الاعتقال أجل ثلاثة أشهر كحدا أقصى، والتي تبقى أطول بكثير من تلك المدة التي سبق لوزارة العدل أن حددتها عمرا افتراضيا للملف الجنحي التلبسي اعتقال (21 يوما).

وغني عن البيان بأنه لا يمكن الاعتراض على هذا القياس بحجة أنه مقرر أثناءالتحقيق الإعدادي وليس المحاكمةوأن القاعدة الجنائية لا تقبل القياس لأنها تفسر تفسيرا ضيقا، لأننا بصدد قانون إجرائي، والفقه الجنائي متفق على أن النطاق الذاتي للقواعد الإجرائية أو المسطرية يقبل التفسير عن طريق القياسبخلاف النص الجنائي الموضوعي، فالقياس حكمه الجواز في قانون المسطرة الجنائية طالما أنه يحقق مصلحة المتهم.
فاستنادا لمبدأ الشرعية الإجرائية يبقى التدخل التشريعي بسن تقنية المحاكمة عن بعد بنص قانوني معدل للمادة 312 من قانون المسطرة الجنائيةبإضافة المحاكمة عن بعد استثناء للحضور بالجلسة ،يفرض نفسه بشكل آنيفي ظل ظرفية انتشار وباء كورونااستنادا إلى المادة الثالثة من مرسوم قانون رقم 2.20.292  أسوة بما قامت به كل من تونس وفرنسا بدلا من انتظار صدور القانون الذي عرضته وزارة العدلوالذي يتطلب وقتا ليس باليسير لما يفرضه ســــن التشريع العادي من مراحل حتى يصبح قابلا للتنفيذفالشرعية الإجرائية تجعل من غير المقبول الاستمرار في بقاء متهمين معتقلين لمدة طويلة لمجرد ممارسة حقهم في رفض المحاكمة عن بعد،لأن ضمانات المتهم خلال مرحلة المحاكمة لا تنسحب فقط للقانون الجنائي الموضوعي وحده كما يتبادر للذهن بمبدأ” لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ”،وإنما تمتد كذلك للشق الإجرائي أثناء المحاكمة وإلى إجراءات تنفيذ العقوبة،فالشرعية الإجرائية في مجال الاعتقال الاحتياطي لا تقوم فقط على عدم جواز تقييد حرية المتهم إلا استنادا لنص في قانون المسطرة الجنائية وإنما تمتد إلى عدم جواز الاستمرار في اعتقاله مدة طويلة في انتظار محاكمته احتراما لقرينة البراءة.
وفي انتظار هذا التعديل التشريعي أعتقد أن إحضار هؤلاء المعتقلين – الرافضين للمحاكمة عن بعد – لمحاكمتهمحضوريا يفرض نفسه لعدة اعتباراتأولها أن هذه الفئة ليست بالكثيرة ،ثانيا لسيطرة السلطات الحكومية على انتشار وباء كوفيد 19 بالمرور للمرحلة الثانية من مخطط تخفيف الحجر الصحي، دون الالتفات للمذكرة الصادرة عن السيد المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج رقم 47 بتاريخ 20 ماي 2020التي تقضي بالمنع المؤقت لنقل السجناء للمحاكم إلى غاية 27 يونيو 2020،لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال لمذكرة صادرة عن السلطة التنفيذية باعتبار أن المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج تابعة لرئيس الحكومة،أن تخرق قواعد دستورية مصقولة من ذهبوهي قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة داخل آجال معقولة،كما لا يمكنها أن تحول دون تطبيق نص إجرائي من النظام العام يفرض الحضور الشخصي للمتهم، وأخيرا لا يمكن لمدير أي مؤسسة سجنية أن يمتنع عن تنفيذ أمر قضائياستنادا للمادة 18 من قانون 23.98 الصادر بتاريخ 25/8/1999 وكذا المادة 51 من مرسوم 03/11/2000 اللتين تلزمانه بتنفيذ جميع الأوامر والمقررات القضائية والتي من بينها الأمر بالإحضار الصادر عن النيابة العامة تنفيذا لما قررته هيئة الحكم بإخراج معتقل من المؤسسة السجنية قصد المثول أمام المحكمة.
تبقى الإشارة في الأخير إلى أن إحضار المتهمين الرافضين للمحاكمة عن بعد لمحاكمتهم مباشرة بقاعة الجلسات، مع ما سيصاحب عملية الإحضار من تدابير احترازية وقائية اتخذتها جميع محاكم المملكة مسبقا بغية العودة التدريجية للسير العادي للمحاكم، سيجعل القاضي الزجري في زمن كورونا يدعم مكانة القضاء سلطة مستقلة وسيساهم في تنزيل المفهوم الحقيقي للمحاكمـة العادلة كما هي مقررة على مستوى التشريع الأساسي “الدستور” والتشريع الجنائي الإجرائي “قانون المسطرة الجنائية” ،وسيكون له بالتالي دور في تعزيز منظومة حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دولي، والأكثر من هذا وذاكسيستطيع التوفيق بين الحق في الحياة وفي المحافظة على الصحة والسلامة في زمن جائحة كورونا وبين احترام قرينة البراءة.