خصوصية الحياة الفردية بين عولمة جرائم الحاسوب و قصور الردع الجنائي: قراءة في المشهد القانوني المغربي

خصوصية الحياة الفردية  بين عولمة جرائم الحاسوب و قصور الردع الجنائي: قراءة في المشهد القانوني المغربي

تمثل الحياة الخاصة الفضاء الواسع لحرية الإنسان في اختيار أسلوب حياته الشخصية، بعيدًا عن التدخل ودون أن يكون في استطاعة الآخرين الاطلاع على أسرارها أو نشر هذه الأسرار بغير رضائه.

 فالقانون قد منح الحق للأفراد في حماية حياتهم الخاصة من أي تدخل يمس هذه الحرية أو هذا الحق، بمعنى حماية شخصيته من الاعتداء عليها والحفاظ على استقلاله وسلامته، بما يضمن حريته في التعبير عن نفسه وتصرفاته وفق الآلية التي يرتئيها مناسبة

و إذا ما حاولنا تأصيل هذه الخصوصية وجدنا جذورها ضاربة في الشريعة الإسلامية و المواثيق الدولية على حد سواء.

  • قول الشرع في حماية حرمة الحياة الخاصة للأفراد

جعل لإسلام فى حياة كل منا منطقة خاصة لا يجوز للناس أن يقتحموها، كما حرم التجسس بنص قرآني آمر قال تعالى: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا» ( الآية 12 ــ سورة الحجرات).

وقد نصت الشريعة الإسلامية – استنادا إلى القرآن الكريم والكثير من الأحاديث النبوية – على تحريم التلصص واستراق السمع و السرقة بشتى أنواعها، فحدالسرقة في الإسلام هو عقوبة محددة بالشرع الإسلامي، وهي أخذ المال خفية من حرز المثل، بشرط أن يكون السارق مكلفا، وأن يسرق من المال قدر نصاب وأن يسرقه من مكان محروز بحرز المثل، وألا يكون للسارق فيه ملك أو شبهة ملك، وأن تثبت السرقة بالبينة الشرعية، عند القاضي الشرعي، بعد الرفع إليه، وهو وحده المخول بإقامة حد السرقة، وهو: قطع اليد اليمنى من الرُّسْغِ.

  • قول المواثيق الدولية في حماية حرمة الحياة الخاصة للأفراد:
    تزخر المواثيق الدولية بالمواد التى تصون حرمة الحياة الخاصة وتحرم اختراقها وتجرم هذا العمل، فالمادة 12 من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان تنص على عدم المساس بخصوصيات الإنسان وعائلته وبيته ومراسلاته وعدم المساس بشرفه وكرامته وسمعته، والجميع لهم الحق فى الحصول على حماية القانون ضد هذه الجرائم، وهناك نص مشابه بالعهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية (المادة 17).

ويعرف الأستاذ الدكتور حسام الدين الأهوانى أستاذ القانون الدولى الحق فى الحياة الخاصة بأنه «حق الإنسان فى أن يكون بعيدا عن تجسس الغير وأعينهم، ولا يجوز نشر ما يتم العلم به دون إذن صاحب الشأن، وحمايتها من أن تلوكها الألسن عن طرق النشر» ( الكتاب الصادر عن الندوة التى نظمتها وزارة الخارجية بالاشتراك مع برنامج الأمم المتحدة للتنميةUNDP حول ضمانات حماية حقوق الإنسان فى الدستور والتشريعات المصرية فى يوليو 2000).

و نسرد بإيجاز بعض الأمثلة عن توصيات و بنوذ الإتفاقيات و المواثيق الدولية على الشكل التالي:
1-  الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948:
       نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة (12) منه على أن: "لا يعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو    مسكنه أو مراسلاته أو لحملات على شرفه وسمعته، ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات".
2-  العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966:
     ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة (17) منه على أن: "لا يحوز تعريض أي شخص، على نحو تعسفي أو غير قانوني، للتدخل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته، ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته، و من حق كل شخص أن يحميه القانون من مثل هذا التدخل أو المساس".

بعد استعراض موقف الشرع الإسلامي و المواثيق الدولية من صيانة الحياة الفردية للأشخاص و تحريم اللإعتداء عليها نتساءل حول بعض صور هذا الاعتداء، و كيف تعامل القانون معها عن طريق الزجر و فرض العقوبات الرادعة ضد مرتكبيها؟

لمقاربة هذا الموضوع و الإجابة على الإشكالية أعلاه نرى ضرورة تناول الموضوع من خلال محورين:

المحور الأول: صور الإعتداء على خصوصية حياة الأفراد.   

المحور الثاني: الردع الزجري من خلال نصوص القانون الجنائي المغربي
المحور الأول: صور الإعتداء على خصوصية حياة الأفراد

شهد العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين تطورات علمية هائلة ومتلاحقة، يصعب في كثيرمن الأحيان مسايرتها أومتابعتها عن كثب. ولعلأهم تطور شهدته البشرية، يتمثل في ظهور الحاسب الآلي. حيث  وضعهذا الاختراع الجديد العالم أمام ثورة حقيقية تتمثل في الثورة المعلوماتية ليؤدي ذلك فيما بعد إلى انتشار أجهزةحاسب آلي،‏ ذات مستوى عال و متطور بشكل مستمر مما أتاح فرصا جديدة للاطلاع على المعلومات وتبادلها. وحتى التفاوض وإبرام عقود مختلفة خصوصا عبرشبكة الانترنت. بل الأكثر من ذلك يمكن عبر هذه الأخيرة تسليم المنتجات كالبرامج أو تقديم الخدمات مثلالاستشارات القانونية أو الطبية،وقد خلفت الثورة المعلوماتية التي عرفتها المجتمعات الإنسانية في العقود الماضية صدى كبيرا أدى إلى زعزعتّ عدد منالمفاهيم التقليديةّ التي ظلت سائدة فترة طويلة من الزمن.

 ولم يكنالإجرام بمنأى عن هذه التحولات. بل حاول المجرمونأن يتكيفوا مع الوضع الجديد. وابتدعوا أساليب ووسائل حديثة، استطاعت أن تتجاوز الأساليب التقليديةّ التي كانتمعتادة لارتكاب الجرائم. مما أدى إلى بروز مفاهيم جديدة كالجريمة المعلوماتية أو الإلكترونية وظهور جرائمالكمبيوتر والإنترنت وانتشار المجرمين المعلوماتيين.

فإذا كانت الجريمة تتطور بتطور المجتمعات فإنها كذلك تتطور بحسب التقدم الذي يتحقق في المجالات العلميةوالتكنولوجية تحديدا : فقد كان من نتائج التطور التكنولوجي في الوقت الراهن وجود ثم علاقة يين استخداماتالحاسب الآلي وارتكاب بعض الجرائم المستحدثة…

وتعتبر هذه النوعية من الجرائم اليوم من أكبر السلبيات التي خلفتها الثورة المعلوماتية:لكون هذه الجرائم تشمل فياعتداءاتها قيما جوهرية تخص الأفراد والمؤسسات وحتى الدول في كافةّ نواحي الحياة. كما أن هذه الجرائم تركت فيالنفوس شعورا بعدم الثقةّ بخصوص التعامل والاستفادة من ثمار هذه الثورة الجديدةوزاد من انتشار وخطورة هذا النوع من الجرائم سهول حركة المعلومات في مجال أنظمة تقنية المعلومات حيث بفضلهذه السهولة، أمكن ارتكاب جرائم عن طريق حاسب آلي موجود في دولة معينة: بينما تتحققنتيجة هذا الفعل الإجرامي في دول أخرى. وهو الأمر الذى استلزم ضرورة وجود تعاون دولي محكم في مجال مكافحةهذا النوع من الجرائم. ولأجل توفير حماية حقيقية لأنظمة الاتصالات،و من صور الاعتداء علة خصوصية الأفراد:

  • الابتزاز الإلكتروني: هي عملية تهديد وترهيب للضحية بنشر صور أو تسريب معلومات سرية تخص الضحية، مقابل دفع مبالغ مالية أو استغلال الضحية للقيام بأعمال غير مشروعة لصالح المبتزين كالإفصاح بمعلومات سرية خاصة بجهة العمل أو غيرها من الأعمال غير القانونية. وعادة ما يتم تصيد الضحايا عن طريق البريد الإلكتروني، أو وسائل التواصل الإجتماعي المختلفة كـ الفيس بوك، تويتر، وإنستغرام وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي نظرًا لانتشارها الواسع واستخدامها الكبير من قبل جميع فئات المجتمع. وتتزايد عمليات الابتزاز الإلكتروني في ظل تنامي عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي والتسارع المشهود في أعداد برامج المحادثات المختلفة، و من أبرز صور الابتزاز الإلكتروني ظاهرة الابتزاز الجنسي عبر الانترنت لم يتحدث عنها القانون الجنائي المغربي كجرم مستقل بذاته ولكنها تدخل ضمن خانة الاعتداء الجنسي، حيث يأخذ هذا الأخير أشكالا متعددة، كالتحرش الجنسي، التحريض على الدعارة، الإخلال العلني بالحياء، وغيرها، و هو موضوع حديثنا في المحور الثاني من هذه الدراسة

والملاحظ أن هذه الظاهرة أصبحت تعرف انتشارا كبيرا خاصة مع تنامي عدد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي ، غير أن عدد الضحايا الذين يلجؤون  إلى مراكز الاستماع التابعة للجمعيات الحقوقية النسائية أو مكاتب المحاماة من أجل تقديم شكاية ضد المبتزين تبقى ضعيفة مقارنة بالواقع.

  • تزوير البريد الإلكتروني، بحيث يظهر أن مرسل الرسالة هو شخص ذو منصب معين كمدير شركة أو عضو في فريق صيانة ، وقد تطلب "رسالة الخداع" من المستخدم معلومات عن حسابه متذرعة بحجة معينة مما ينخدع المستخدم بذلك ويستجيب لطلبه، فتنطلي عليه الحيلة و يكون عرضة للنصب.
  • تزوير صفحات الويب، بحيث تظهر صفحة الويب مطابقة للصفحة الرسمية لموقع آخر، وفي حالة كانت الصفحة تزويراً لموقع حساس، فإن المستخدم المخدوع قد يدخل بيانات حسابه في الصفحة المزورة مما يؤدي إلى سرقة هذه المعلومات. وقد تقترن هذه الخدعة أحياناً مع سابقتها، فيُرسل عنوان موقع الويب في رسالة بريدية مزورة.
  • خداع المعاملات المالية، حيث يعد الطرف الخادع (عن طريق رسالة بريد إلكتروني في العادة) الطرف المخدوع بنسبة كبيرة من ثروة وهمية مقدرة بالملايين شريطة أن يقوم المستخدم المخدوع أولاً بالقيام ببعض الترتيبات لاستلام هذه الأموال. تتضمن هذه الترتيبات إرسال مبلغ من المال إلى الطرف الأول لسبب ما (من أجل معاملات تحويل الأموال مثلاً)، وبهذا يكون المستخدم قد وقع ضحية الاحتيال وخسر نقوده. تـُصنف رسائل البريد الخاصة بهذا النوع في كثير من أنظمة البريد الإلكتروني تحت تصنيف البريد المزعج (Spam mail).
  • خدع النقر بالفأرة، وهي عبارة عن مواقع ويب تطلب من المستخدم التسجيل والنقر على إعلاناتها أو تشغيل برنامج يقوم بعرض الإعلانات على جهازه مقابل الحصول على مبلغ معين (عن كل عدد معين من الإعلانات أو حسب مدة تشغيل البرنامج). ناتج هذه الخدع هو عمليات تسويق دعائية مجانية لهذه المواقع مقابل "لا شيء" مادي يحصل عليه المستخدم المخدوع بالمقابل.
  • خدع فرص العمل في المنزل، تطلب هذه الخدع من المستخدم إرسال مبلغ مالي معين قد يصل إلى بضع مئات من الدولارات لقاء المواد اللازمة لبدء عمله لإرسالها إليه، ولكن المستخدم يدفع دون أن يحصل على المواد/المعلومات التي دفع ثمنها. تطلب هذه الخدع أحياناً التسجيل في الموقع وإرسال رابط دعائي للموقع إلى مستخدمين آخرين ليزيد من نسبة ربحه.
  • الخداع التضامني، بعض المستخدمين الذين يقعون ضحايا لإحدى أنواع احتيال الإنترنت يقومون بالتسويق لهذه الخدع (كما في النوع السابق) وتأكيد صحتها ومصداقيتها (سواءً كانوا عالمين أو جاهلين بحقيقتها)، مما يؤدي إلى وقوع المزيد من الضحايا فيها.
  • الزواج الإلكتروني:وينتج عن الزواج الإلكتروني أو الزواج عن طريق الإنترنت العديد من المشكلات، التي تقع ضحيتها الفتاة في كثير من الأحيان مثل حالات النصب والاغتصاب.

وتعود فكرة الزواج الإلكتروني  إلى عام 1614 في الولايات المتحدة الأمريكية، عندما كان الرجال في أمريكا يعيشون في وحدة، ويريدون زوجة في مجتمع مترامي الأطراف، ولا يوجد به وسائل تواصل وترابط.

من جانبه، قال فرانك ماكندرو، دكتور بكلية نوكس في الولايات المتحدة الأمريكية، في تقرير له بصحيفة الإندبندنت، إن نظام "الخاطبة الإلكتروني" يحاول فيه كل من المرأة والرجل البحث خارج الإطار التقليدي للزواج عن شريك حياة مثالين من وجهة نظره،ـ بعيدًا عن القيود المفروضة عليه، والاختيارات المحددة سلفًا لزميلة له في الدراسة أو العمل.

لكن الواقع ينذر بحدوث كوارث أخلاقية من الطراز العالي ضحاياها فتيات و نساء، يتعرضن للنصب و الاغتصاب و سرقة أموالهن و غير ذلك.

و أمام هذه الصور من النصب التي تنتهك حرمة الحياة الفردية للأشخاص و تنهب أموال الناس بالاستعمال السيئ لهذه الثروة التكنولوجية الهائلة نتساءل عن المجهودات التشريعية للحد من هذه الظاهرة ذات البعد الكوني، و هو ما سوف نتطرق إليه في المحور الثاني من هذه الدراسة تحت عنوان: الردع الزجري من خلال نصوص القانون الجنائي المغربي.

يتـــــبع