الإكراه البدني بين تطبيق النص القانوني وسياسة ترشيد الاعتقال الاحتياطي”محاولة في التحليل”

الإكراه البدني بين تطبيق النص القانوني وسياسة ترشيد الاعتقال الاحتياطي”محاولة في التحليل”

الإكراه البدني هو حبس المدين قصد الوفاء بدينه، و هو احدى الوسائل التهديدية لتنفيذ الأحكام و غيرها من السندات و الديون المستحقة للدولة و المؤسسات العمومية

و الهيئات التي في حكمها و الجماعات المحلية.

ولعل محاولة تأصيل هذه العقوبة تحيلنا على نظام العهود القديمة، حيث كان المدين يلتزم في شخصه لا في ماله، ويحق لدائنه أن يحبسه إذا لم يف بالتزامه.

لكن مع مرور الوقت و ظهور مفاهيم جديدة من قبيل الكرامة البشرية و حقوق الإنسان و غيرها من المفاهيم التي تهتم بإنسانية الأفراد تحول الإلزام من الجسم إلى المال.  

و بالرجوع إلى المقتضيات القانونية و خاصة نصوص المسطرة الجنائية

ومدونة تحصيل الديون العمومية ، لا نجد تعريفا للإكراه البدني وإنما التنصيص فقط على شروط وكيفية تطبيقه.

في الوقت الذي يعتبره الفقه إجراءا تهديديا يستهدف الضغط على المدين القادر على الوفاء عن طريق حبسه لإجباره على تنفيذ التزامه ، وهو تعريف جديد يقترب من التصور الذي ورد في المادة 77 من مدونة تحصيل الديون العمومية و المتعلقة بتنظيم مسطرة الإكراه البدني.

و الملاحظ أن التشريعات الوضعية الحديثة التي تبنت مبدأ تطبيق الإكراه البدني، تراجعت جلها عنه رغم فعاليته، اعتبارا لما له من مساس بحرية الشخص المدين لخالفته المبادئ المدنية الحديثة التي تقضي بان المدين يلتزم في ماله لا في شخصه، وأن جزاء الإخلال بالالتزام هو تعويض لا عقوبة.
و بمراجعة بعض الأنظمة التشريعية المقارنة بهذا الشأن نجد أن التشريع الفرنسي ألغى الإكراه البدني في الميدان التعاقدي فيما يخص الديون التجارية والمدنية بموجب القانون الصادر بتاريخ 22/7/1867، إلا أنه أبقى على هذا النظام كإجراء قهري بالنسبة للغرامات المالية والمصاريف القضائية وكذا التعويضات المدنية لفائدة الدولة والمطالب بالحق المدني مادام مصدرها الفعل الجرمي.

أما المشرع المغربي فقد نظم الإكراه البدني بموجب ظهير 21/8/1935 المتعلق بسن نظام المتابعات في ميدان الضرائب المباشرة و الآداءات المماثلة وغيرها التي يحصلها أعوان الخزينة، و كذا قانون المسطرة الجنائية الذي ينص في الفصل 675 على أنه " يمكن أن تنفذ عن طريق الإكراه البدني بقطع النظر عن المتابعات التي يقع إجراؤها على الأموال حسب الفصل 673 الأحكام الصادرة بالغرامة، ورد ما يلزم رده والتعويضات و المصاريف.

غير أن أهم ظهير في هذا الباب هو ا لظهير رقم 305-60-1 الصادر بتاريخ 20/2/1961 بشأن استعمال الإكراه البدني في القضايا المدنية، تم توالت النصوص القانونية في تأطير مسطرة الإكراه البدني، وهنا نتساءل حول كيفية التوفيق و التوازن بين ضرورة تطبيق النصوص القانونية كوسيلة لبسط سيادة الدولةوالمحافظة على هيبتها، خاصة من خلال تنفيذ الأحكام القضائية من جهة اولى، و ترشيد الاعتقال الاحتياطي كمطلب أساسي يؤرق الجهات المعنية خاصة رئاسة النيابة العامة من جهة ثانية؟

للإجابة على هذه الإشكالية نرى ضرورة تناول هذا الموضوع من خلال تقسيمه إلى محورين:

اولا: تطبيق القانون في مسطرة الإكراه البدني.

ثانيا: ترشيد الاعتقال الاحتياطي في مسطرة الإكراه البدني.

المحور الأول: تطبيق القانون في مسطرة الإكراه البدني.

أولا : شروط تطبيق الإكراه البدني في الديون العمومية

            في هذه الدراسة سوف نقتصر على الديون العمومية باعتبارها موضوعا يمكن أن تمارس فيه الإدارة حقها في وضع حد لحريات الأفراد لمجرد عدم قدرتهم لسبب من الأسباب على إبراء ذمتهم المالية من الديون العمومية المترتبة في حقهم، و التي أصبحت مستحقة بعد صيرورة الحكم نهائيا غير قابل لأي طريق من طرق الطعن عادية كانت أو غير عادية.

و عموما تعتبر مدونة تحصيل الديون العمومية السند القانوني في تحصيلها جميعها باستثناء الغرامات و الآداءات النقدية، كما نظمت المسطرة الجنائية قواعد تطبيق الإكراه البدني في المواد من 633 إلى 647 ق م ج.

للإحاطة بالموضوع من جميع جوانبه، كان لزاما أن نقف على ماهية الدين العمومي حسب المقتضيات القانونية المنظمة لمؤسسة الإكراه البدني قبل تطرق لمسطرة تطبيقه و الموانع الحائلة دون تنفيذه.

 إن المشرع المغربي أوضح ضمن أحكام مدونة تحصيل الديون العمومية بدقة المقصود بالدين العمومي، من خلال المادة 2 من مدونة تحصيل الديون العمومية التي تنص على أنه : " تعتبر ديونا عمومية بمقتضى هذا القانون :

الضرائب المباشرة للدولة والرسوم المماثلة وكذا الضريبة على القيمة المضافة، المشار إليها بعبارة " الضرائب والرسوم " في ما يلي من هذا القانون.

1-      الحقوق والرسوم الجمركية.

2-      حقوق التسجيل و التمبر والرسوم المماثلة.

3-      مداخيل وعائدات أملاك الدولة.

4-      حصيلة الاستغلالات والمساهمات المالية للدولة.

5-       الغرامات والإدانات النقدية.

6-      ضرائب ورسوم الجماعات المحلية وهيئاتها.

 سائر الديون الأخرى لفائدة الدولة والجماعات المحلية وهيئاتها والمؤسسات العمومية التي يعهد بقبضها للمحاسبين المكلفين بالتحصيل، باستثناء الديون ذات الطابع التجاري. "

و انطلاقا من النصوص المنظمة للإكراه البدني يمكن تحديد شروط تطبيقه على النحو التالي:

نظم المشرع المغربي أحكام الإكراه البدني في الباب الخامس من الكتاب السادس، المتعلق بتنفيذ المقررات القضائية وتحديدا في المواد 673 إلى غاية المادة 687 من ظهير 10 فبراير 1959 المتضمن لقانون المسطرة الجنائية، وكذا ظهير 20 يناير 1961 المتعلق باستعمال الإكراه البدني في القضايا المدنية.
وفي ما يلي نستعرض بإيجاز الشروط المتطلبة لتطبيق الإكراه البدني في القضايا الجنائية والجبائية وفق القانون المغربي.
1 – أن يكون الحكم نهائيا غير قابل للطعن:

شرط لازم لسلوك مسطرة الإكراه البدني أن يكون الحكم نهائي غير قابل للطعن حيث نصت المادة 645 من قانون المسطرة الجنائية المغربية على أنه:

 “… ولا يمكن التنفيذ بطريق الإكراه البدني المحكوم بصفة لا تقبل الرجوع”.
فإذا كان الحكم مطعونا فيه أو قابلا بلا أي وجه من وجوه الطعن عادية كانت أو غير عادية، وجب عدم تنفيذه عن طريق مسطرة الإكراه البدني، وهذا أمر منطقي، لأن ذلك يتعلق بحرية الأشخاص التي تتطلب التريث من أجل عدم المساس بها.

2 – إن ينذر الدائن المحكوم لصالحه مدينه بالأداء:

تنص المادة 680 من قانون المسطرة الجنائية على أنه “لا يمكن إلقاء القبض على المحكوم عليه بالإكراه البدني وسجنه إلا بعد القيام بما يأتي: أن يوجه إليه إنذار بالأداء، ويبقى بدون جدوى بعد مرور أكثر من عشرة أيام”، إذ أن مجرد صدور حكم نهائي لا يكفي لتطبيق الإكراه البدني ضد المحكوم عليه، بل لابد من إنذاره ومرور عشرة أيام على توصله بالإنذار حتى يستوجب اعتقاله في حالة عدم آدائه للمبلغ المحكوم به، وتوجيه الإنذار للمدين واجب سواء كان الدين عموميا أو خصوصي.

و هكذا لا يمكن تطبيق مسطرة الإكراه البدني إلا بعدما تصير الأحكام نهائية غير قابلة للطعن، فإن كانت غيابية وجب تبليغها و فوات الآجال القانونية الممنوحة للتعرض أو اللإستئناف، أما إذا كانت حضورية وجب فوات آجال استئنافها، و هكذا لابد من المرور عبر المراحل الآتية:

v      صيرورة الحكم نهائيا.

v      تبليغ إشعار بدون صائر.  

v      تبليغ الإنذار إلى المدين لأداء ما بذمته.

v      الحجز على المنقول أولا تم العقار عند عدم كفايته مع مراعاة المقتضيات القانونية في هذا المجال.

v      البيع في حالة وجود منقول أو عقار لأستفاء الديون.

v      الإكراه البدني بتعليمات النيابة العامة و بعد موافقة قاضي تطبيق العقوبة مع مراعاة مقتضيات الفصلين 640 و 641 ق م ج فيما يخص المكره الطليق و المكره الموجود رهن الاعتقال الاحتياطي لأسباب أخرى، غير أن القانون حدد حالات لا يمكن فيها تطبيق الإكراه البدني.

ثانيا- الحالات التي لا يمكن فيها اللجوء إلى الإكراه البدني:

 بالرجوع إلى مقتضيات المادة 77 من مدونة تحصيل الديون العمومية نجدها تنص على ما يلي : " لا يمكن اللجوء إلى الإكراه البدني في ما يخص تحصيل الضرائب والرسوم والديون العمومية الأخرى في الحالات الآتية :

·        إذا كان مجموع المبالغ المستحقة يقل عن ثمانية آلاف درهم (8.000) ؛

·        إذا كان سن المدين يقل عن 18 سنة أو بلغ 60 سنة فما فوق ؛

·        إذا ثبت عسر المدين طبقا للشروط المنصوص عليها في المادة 57 أعلاه ؛

·        إذا كان المدين امرأة حاملا ؛

·        إذا كان المدين مرضعة، وذلك في حدود سنتين ابتداء من تاريخ الولادة"، و تنص المادة 57 من مدونة تحصيل الديون العمومية على ما يلي:

يثبت عسر المدينين:

إما بمحضر عدم وجود ما يحجز كما نصت عليه المادة 56 أعلاه بالنسبة للمدينين المعروفين بقدرتهم على الوفاء والذين لم يفض الحجز الذي أجري عليهم إلى أي نتيجة.

وإما بشهادة العوز المسلمة من طرف السلطة الإدارية المحلية بالنسبة للمدينين المعروفين بعسرهم.

ففي هذه الحالات جميعها لا يمكن تطبيق مسطرة الإكراه البدني في مواجهة المدينين متى توافرت فيهم الشروط المذكورة أعلاه، تحت طائلة البطلان, مع إمكانية اللجوء إلى القضاء للمطالبة بالتعويض عن الاعتقال التعسفي.

هذه إذن باختصار المقتضيات المتعلقة بتطبيق الإكراه البدني، و الحالات التي لا يمكن فيها اللجوء إلى إكراه المدين للاعتبارات المذكورة أعلاه، غير أن هذه النصوص القانونية تقابلها مواثيق و اتفاقيات دولية، يعتبر المغرب من البلدان الموقع عليها و الملزم بمراعاة أحكامها، كتلك التي تقضي بترشيد الاعتقال الاحتياطي و اللجوء إلى بدائله لتحقيق الردع الاجتماعي و هي النقطة التي سوف نفصل فيها في مداخلة أخرى بحول الله و جميل توفيقه

يتبع…