“أي دور للمجتمع المدني في تدبير الشأن العام من خلال الدستور الجديد” محاولة في التحليل-1-

“أي دور للمجتمع المدني في تدبير الشأن العام من خلال الدستور الجديد” محاولة في التحليل-1-

مقدمة:

شهد العقد الأخير من القرن العشرين إحياء مصطلح المجتمع المدني من جديد، ليشير إلى مجموعة التنظيمات القائمة فعلاً في معظم المجتمعات المعاصرة.

ورغم الانتشار الواسع لمفهوم المجتمع المدني فقد اختلف المفكرون وأصحاب النظريات في وضع تعريف محدد له، كما اختلفوا في تحديد مفهومه وطبيعة دوره، حيث أشارت دراسة أعدها باحثون إلى أن المراجعة الجزئية لأدبيات علم الاجتماع باللغة الانجليزية قد أظهرت أن هناك أكثر من سبعين تعريفا لمفهوم المجتمع المدني.
كما أن عملية صنع السياسات من المهام الأساسية لأي دولة، بيد أن هذه العملية لا تنطلق من فراغ، فهي عملية ذات طابع ديناميكي ونتاج تفاعل أطراف عديدة حكومية وغير حكومية، داخلية وخارجية، وما يتضمنه ذلك من مشاورات واتصالات وضغوطات. وهذا الأمر مسلم به في أدبيات السياسة المقارنة منذ عقود عديدة، فهناك إقرار أن للجماعات المنظمة في المجتمع دوراً أساسياً في عملية صنع السياسة سواء من خلال صراعاتها مع بعضها البعض، أو مع الدولة في سبيل التأثير على عملية صنع القرار . الشيء الذي أصبحت معه ضرورة إشراك المجتمع المدني للمساهمة في صياغة القرار السياسي للبلاد أمرا لازما وأساسيا.
ففي الوقت الذي تنمو وتتبلور فيه التكوينات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة، فإنها تخلق معها تنظيمات مجتمعها المدني، التي تسعى بدورها إلى الفعل والتأثير في المحيط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
بالرغم من أن موضوع المجتمع المدني ما زال يثير العديد من القضايا والتساؤلات على صعيد المجتمع ككل، بقواه وتكويناته ومؤسساته وأنماط ثقافته، كما يثير العديد من المشاكل على صعيد الدولة، بأجهزتها وقوانينها وسياساتها في مختلف المجالات، ذلك لان طبيعة حركة الدولة وحدودها، أمام المجتمع المدني ومؤسساته، تتحدد ملامحها وسماتها من خلال تحديد أنماط العلاقة بين الدولة من ناحية والقوى والتنظيمات الاجتماعية من ناحية أخرى.
الأمر الذي يدفعنا للتساؤل حول دور المجتمع المدني في بلورة السياسات العمومية ؟
للإجابة عن هذه الإشكالية سنعمل إلى تقسيم الموضوع إلى محورين نتناول في الأول صياغة القرار العمومي، على أن نتناول في المحور الثاني المشاركة في تدبير شؤون الدولة والمجتمع.

المحور الأول : دور المجتمع المدني في صياغة القرار العمومي

يتزايد اعتراف منظمات المجتمع المدني بضرورة التأثير على السياسات العامة وصنع القرار بفعالية أكبر، إما بهدف تمثيل حاجات المواطنين، أو لضمان ارتكاز السياسة الجديدة على معطيات واقعية، لاسيما، بعدما بدت الدولة أكثر تقبلا للسياسات المبنية على منطق التشارك، وأخذت تبحث عن اقتراح حلول مبتكرة تستفيد من التراكم المحقق من طرف المجتمع المدني والذي أصبحت منظماته بمثابة بيوت خبرة لا غنى عن مشاركتها، إذ ما أرادت تسهيل تنزل السياسات، وبالتالي المساهمة في تخفيض تكلفة المنتج الوطني وتقليل الأخطاء والهفوات وزيادة منسوب الديمقراطية وترسيخ قواعد الرقابة المتبادلة.
هنا يطرح السؤال حول واقع مشاركة المجتمع المدني المغربي في تدبير الشأن العام(أولا)، وقبل ذلك حول مبررات التعويل على دور أكبر لمنظمات المجتمع المدني في صنع السياسات العمومية (ثانيا)؟

أولا : دواعي الرهان على دور أكبر لمنظمات المجتمع المدني في صنع السياسات العمومية.

برزت منظمات المجتمع المدني في السنوات الأخيرة كفاعل رئيسي في التنمية خاصة بعد النمو غير المسبوق في عددها وحجمها ومجالات إشتغالها، وقد واكب ذلك إعادة تعريف دور منظمات المجتمع المدني في خطاب التنمية، و بناء عليه برزت أدوار جديدة وعديدة منوطة بالمجتمع المدني، بعضها متعلق بالتحول الديمقراطي والبعض الأخر ذو صلة بصنع السياسة.
في ظل هذه التحولات ما هي مبررات التعويل على دور أكبر للمجتمع المدني في صنع السياسات العمومية؟ وما هي محددات نجاح منظمات المجتمع المدني في القيام بهذا الدور؟

1. الحوافز الداعمة لمشاركة المجتمع المدني في رسم السياسات العمومية.

يعود سبب الأهمية التي أصبح يكتسيها حضور المجتمع المدني في تدبير الشأن العام وصنع السياسات العمومية إلى انحصار دور الدولة التقليدي وتنامي أدوار المجتمع المدني واتساع مجالات تأثيره، لذلك ومن خلال تقييم واقع هذه التحولات، بدأت حركة مراجعة شاملة لأدوار مختلف الفاعلين وتقييم مدى فاعليتها.
فكما هو معلوم، فقد مرت منظمات المجتمع المدني بعدة مراحل في تطورها. كانت البداية بجيل الخدمات، حيث تولت العديد من الجمعيات عمليات الإغاثة وتقديم المساعدة الاجتماعية للمحتاجين، وتعد مبادرات التضامن هذه استجابة للمواقف الطارئة التي كانت تحدث سواء بفعل إنسان أو الطبيعة، والتي تروم تخفيف أعباء الفئات الهشة بمجهودات فردية و غير منتظمة، بعد ذلك ظهر جيل جديد من منظمات المجتمع المدني، جيل بدأ يعي أهمية التعامل مع أسباب المشاكل بدل أعراضها، أي العمل مباشرة في التنمية من خلال القيام بمشاريع تستهدف تنمية قدرات الساكنة المحلية وتسخير الموارد الضرورية لتحقيق تنمية مستدامة.
في سياق عملية التحول هذه، وعلى خلفية بقاء تأثيرات المجتمع المدني جزئية ومحدودة على الرغم من بعد النجاحات التي راكمها، فان الأصوات بدأت تتعالى لإعادة النظر في أدواره، فهذه الدكتورة "هويدا عدلي" وفي سياق تحليلها لتأثير مؤسسات المجتمع المدني على بلورة سياسية إنفاق للخدمات الاجتماعية ترى أنه "على الرغم من كفاءة وفعالية المجتمع المدني في ممارسته لنشاطه في الفضاءات المحلية، إلا أن نشاطه محدود النطاق جغرافيا، فضلا عن تبنيه لمفاهيم جزئية للتنمية تستجيب للمصالح ذات الطابع المحلي، وعلى النقيض من ذلك فان الحكومات تعمل على نطاق أكثر اتساعا وتستهدف المجتمع ككل بالمعنيين السياسي والجغرافي، إلا أنها قد تعجز عن رؤية العلاقات الفعلية عن قرب، كما أن المعلومات التي تصلها غالبا ما تكون عمومية وتنقصها الخبرة الميدانية، وهذا ما يؤدي لعدم ملائمة قراراتها لفئات اجتماعية معينة. وما يعنيه ذلك من حاجة كل طرف للأخر في إطار نوع من الاعتماد المتبادل"
لعل هذا التقييم وهذه الرغبة في تجويد العمل المدني كانا هما الدافعيين الرئيسيين لتطور مؤسسات المجتمع المدني بالشكل الذي أمكن الحديث معه عن جيل ثالث له اقتراب مختلف في التعامل مع التنمية والسياسة العامة.
أدرك هذا الجيل أن أي عملية إنمائية معتمدة على الذات ستكون معرضة للانهيار إذا لم يتوافر إطار مؤسسي وسياسي حاضن للمبادرات المدنية وبيئة مواتية لإقامة تحالفات وشبكات بعيدا عن العمل الفردي والموسمي، وعلى هذا فان الإستراتيجية الإنمائية التي طرحها الجيل الثالث من المنظمات المدنية، تفترض المشاركة الكاملة من جانب الأفراد في صياغة احتياجاتهم الإنمائية.
لقد ساهم هذا التحول في طرح فكرة دمقرطة صنع القرار العمومي من خلال مشاركة المجتمع المدني فيه. وفي هذا السياق بدأ الاهتمام بطرح أفكار متنوعة واقتراح أطر متعددة لضمان مشاركة منظمات المجتمع المدني في صنع السياسات العمومية.

2. مؤشرات نجاح المجتمع المدني في التأثير على عملية صنع القرار العمومي.

تتعدد المؤشرات المفسرة لقدرة منظمات المجتمع المدني على التأثير على عملية صنع السياسة، تتجلى أول هذه المؤشرات في مدى استناد المنظمات المدنية على قاعدة شعبية متينة ومتماسكة تمنحها القوة والشرعية، ولا يمكن لهذا أن يتم دون أن تتمكن هذه المنظمات من تشخيص حاجيات مجتماعاتها المحلية وطبقاتها المهمشة وفيئاتها الهشة، مما يتطلب إشراك هذه المجموعات في تحديد المشاريع والتخطيط لها وتنفيذها ومتابعتها.
وهذا الأمر ليس هينا إذ يحتاج إلى مهارات خلق جسور التعاون وبناء الثقة بين هذه الفئات ومنظمات المجتمع المدني.
كما يرتبط نجاح المجتمع المدني في مهمته هاته بالخبرات الإدارية والمؤسسية لمنظماته، أي قدراتها في بناء الهياكل التنظيمية وتنمية روح العمل الجماعي وتملك مهارات الاتصال والتخطيط الاستراتيجي . وكذلك بالقدرة على بناء رصيد للقوة والتأثير من خلال النجاح في إقامة تحالفات وشبكات فيما بين المنظمات المدنية وبعضها البعض، وأيضا مع كافة الأطراف الفاعلة في عملية التنمية سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي أو الدولي، وذلك بغية تسهيل تبادل المعلومات والخبرات مع مراعاة إشراك المنظمات القاعدية في هذه الشبكات.
المؤشرات السالفة الذكر لا يمكن تناولها بشكل منعزل بعيدا عن تشخيص طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، هذه العلاقة التي يمكن أن تكون تعاونية وتستند للاعتماد المتبادل وتوزيع الأدوار، وفي هذه الحالة يتوقع أن تقوم علاقة شراكة ناجحة وفعالة بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني في عملية صنع السياسة.وخلاف ذلك يمكن أن يشوب العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني الصراع وتحكمها الخصومة، بالشكل الذي يجعل من أي مكسب تحققه المنظمات المدنية يكون على حساب الدولة والعكس صحيح.
لذلك فان الشراكة الناجحة تتطلب توفير إطار قانوني ومؤسسي يحدد أسس التعاون بين الدولة والمجتمع المدني مع مراعاة مراجعة هذا الإطار باستمرار في ضوء التغيرات التي تطرأ على المجتمع . قد يأخذ هذا الإطار شكل اتفاق بين الحكومة والجمعيات أو إستراتيجية وطنية للتنمية يشارك فيها الطرفان أو أي شكل أخر يتفقان عليه. وفي هذا الاتفاق-فضلا عن تحديد أسس التعاون- تقر الحكومة بأهمية الدور الذي يلعبه المجتمع المدني. فضلا عن الالتزام باحترام استقلاله وحقه في ممارسة أية أدوار دفاعية يبتغيها، وحقه في انتقاد الحكومة بل ورفضه التعاون معها. فالشراكة الناجحة تقوم على أساس الثقة المتبادلة بين الشركاء واحترام استقلال كل طرف وتوفير آليات للتعاون واستدامة هذا التعاون في إطار نوع من التكامل والاعتماد المتبادل.
وعلى العموم، "وكما هو مستقر عليه في أدبيات السياسة المقارنة أن أي سياسة هي مخرج نهائي لعملية ضغوط وضغوط متبادلة. فان منظمات المجتمع المدني تؤثر على عملية صنع السياسة من خلال عدة وسائل واليات مثل تقديم المشورة والخبرة التقنية، وبناء تكتلات وتحالفات للضغط على صناع السياسة، وتنظيم حملات دعائية، وأنشطة تعبوية لإثارة وعي الجماهير بقضية ما". هذا فضلا عن تقديم المطالب مباشرة وكذلك مراقبة الحكومات وتتبع سياساتها. كما يمكن أن تتم عملية التأثير هذه من خلال شراكة بين الدولة والمجتمع المدني، والتي قد تبدأ من مراحل مبكرة وحتى قبل أن تلتزم الحكومة مهما يكن، وأخذا بعين الاعتبار لكل المؤشرات الحاكمة لقدرة منظمات المجتمع المدني على التأثير على عملية صنع السياسة السالفة الذكر، فان السؤال يطرح حول واقع مشاركة المجتمع المدني المغربي في رسم السياسة؟

ثانيا : واقع مشاركة المجتمع المدني في تدبير الشأن العام

يتحدد واقع مشاركة المجتمع المدني في رسم السياسة العمومية بشكل واضح من خلال تسليط الضوء على واقع حال المجتمع المدني (1) وكذلك من خلال تقديم بعض نماذج الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني في تدبير قضايا المجتمع الأساسية(2).

1. واقع المجتمع المدني حافز على المشاركة في تدبير الشأن العام

أفاد بحث نشرته المندوبية السامية للتخطيط سنة 2011 كأول دراسة من نوعها في المغرب حول المؤسسات ذات الأهداف غير الربحية الذي أطلقته سنة 2009 وهم دراسة معطيات سنة 2007 بأن المجتمع المدني عرف تطورا كبيرا تزامنا مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي عرفها المغرب، كما عرفت أنشطته توسعا معتبرا أن العمل الجمعوي أصبح يستقطب أكثر من 15 مليون عضو من مختلف فئات المجتمع سنة 2007 مستفيدا من الزخم الذي خلقه اعتماد المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي شكلت الإطار الذي تطورت من خلاله المقاربة التشاركية.
و خلص البحث إلى أنه وبحكم انتشارها على امتداد التراب الوطني واعتبارا لقربها من الساكنة وخدمتها لحاجيات ومصالح المواطنين في مختلف المجالات أصبحت الجمعيات معطى لا مفر منه في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
من هذا المنطلق، فالقراءة الدقيقة للمعطيات الراهنة تظهر أننا أمام مرحلة جديدة تتسم بتوسع نشاطات فعاليات المجتمع المدني لتشمل مختلف الحياة المجتمعية، ولا شك أن هناك إرادة تسير في اتجاه إيجاد أسس المجتمع المدني الفعال، فالمتتبع للمشهد السياسي سيلاحظ أن المغرب قد عرف تحولات ملموسة تتجه نحو تشجيع النشاط المتنامي لمكونات المجتمع المدني، ودعم الحركة الجمعوية المتصاعدة، وتثبيت قواعد الحريات العامة وحقوق الإنسان في اتجاه بناء دولة الحق والقانون، ويدل على هذه الحركة المتنامية مجموعة من المؤشرات الإيجابية في مقدمتها إرادة ترسيخ مفهوم جديد للسلطة، وبناء تصور جديد للعلاقة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، أي بروز إرادة سياسية إصلاحية عليا تلتزم بالاختيارات التحديثية الديمقراطية وتروم عقلنة المجال السياسي برمته، فالنظام السياسي أصبح ملزما على نزع الطابع المخزني تدريجيا عن الدولة وتقوية التوجه التحديثي سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا، وثقافيا… بالشكل الذي يسهم في تهيئ الأرضية الملائمة لإنضاج تجربة الانتقال الديمقراطي في المغرب، كذلك عرفت الساحة السياسية حركية هامة في سنوات الأخيرة، كاتخاذ العديد من التدابير والإجراءات التي من شأنها الدفع بظهور المجتمع المدني القوي والفعال، فهناك إجراءات لضمان حقوق الإنسان بكل أبعادها، الاعتراف بالاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، تجريم التعذيب، إصلاح الإدارة ومحاربة العديد من مظاهر الفساد الإداري، إصلاح التعليم، أصلاح القضاء، مراجعة القوانين المجتمعية الكبرى، كظهير الحريات العامة، المسطرة الجنائية، مدونة الأسرة، قانون الصحافة، مدونة الشغل، مدونة الانتخابات، ميثاق التنظيم الجماعي، قانون الجمعيات، قانون الأحزاب السياسية ..الخ، التركيز على الجانب الاجتماعي من خلال الاهتمام بالعالم القروي و العناية بالفئات المهمشة واعتماد مبادرة وطنية للتنمية البشرية كان لها دور كبير في إعادة الثقة إلى العلاقة بين الدولة والجمعيات.
بل ومن بين التوجهات التي اعتمدتها الحكومة، المبادرة إلى استشارة مكونات المجتمع المدني في وضع الكثير من القوانين واعتماد أسلوب الحوار والتفاوض في تدبير القضايا الهامة، بل وإشراك الفعاليات الجمعوية في العديد من المؤسسات والمجالس الاستشارية الرسمية، وهذا يظهر مدى انفتاح الدولة على المجتمع المدني عبر الاستجابة لمطالبه في أفق شراكة حقيقية بينهما.
لكن التحول الهام الذي سجل في علاقة الدولة بالمجتمع المدني كان دستور 2011 والذي مكن المجتمع المدني من المشاركة في صناعة القرار العمومي عبر مجموعة من الآليات والميكانزمات، فقد نصت الفقرة الثالثة من المادة 12من الدستور الجديد بشكل مباشر وواضح على أن "أن تساهم الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية في إطار الديمقراطية التشاركية في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية" كما أكدت المادة 13 على أن "تعمل السلطات العمومية على إحداث هيئات للتشاور، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين في إحداث السياسات العمومية" ونصت المادة 139 على إشراك الجمعيات في تدبير الشأن المحلي، كما نص الدستور بشكل غير مباشر في مجموعة من فصوله على ضرورة إشراك المجتمع المدني في مسلسل اتخاذ القرار العمومي. هذا بالإضافة إلى إضفائه طابع الدسترة على بعض المؤسسات والهيئات الإدارية والحقوقية المستقلة، والتي تدخل في صلب ما يصطلح عليه بهيئات الحكامة الجيدة.
الأكيد كذلك- أن هناك فعالية متزايدة لحركة المجتمع المدني، الذي بدأ يتطور تدريجيا إلى الأفضل ويتسع تأثيره يوما بعد يوم، كما أن مكوناته تتضاعف مع مرور الزمن، فقد ساهم بشكل فعال عبر عمليات التعبوية التي أطلقها والنضالات التي خاضها، بأفكار ومناهج عمل جديدة(تعبئة، عرائض، تشبيك، رصد الانتخابات، ..الخ) في تحويل الانتقال الديمقراطي إلى واقع ملموس كما أنجزا عمل جبارا من أجل فك العزلة عن المناطق القروية المهمشة، ومحاربة الأمية وتوزيع القروض الصغرى وإطلاق الأنشطة المدرة للدخل…الخ، وبذلك كان دوره حاسما في الحفاظ على نوع من التماسك الاجتماعي 11 وفي تطوير ثقافة جديدة لمشاركة الأفراد المواطنين.
وعلاوة على التزايد الهام في عدد منظمات المجتمع المدني طوال السنوات الأخيرة، فقد حققت الحركة الجمعوية تقدما ملحوظا من حيث تنوع مجالات اشتغالها، وتجدر ثقافة التنسيق والتشبيك في تحركاتها، واكتسابها الوعي اللازم للدفاع عن استقلاليتها واستمرارها في القيام بمهامها وبالتالي الحفاظ على مصداقيتها، لتبقى قريبة من انشغالات المجتمع، وهي لذلك تسائل المجتمع السياسي وتتقدم إليه بمجموعة من المطالب وتفاوضه عليها وتمارس عليه الضغط لتحقيقها.
فمختلف هذه التحولات الإيجابية تجعلنا نقر بأن المجتمع المدني في المغرب يتطور تدريجيا في اتجاه تدعيم استقلاليته عبر بناء قوته الذاتية وتحرره من الهيمنة السياسية المباشرة سواء من طرف السلطة أو الأحزاب.
لكن وبالرغم من هذه البشائر الإيجابية يجب التأكيد على أن المغرب يعيش اليوم لحظة متناقضة : أنها إذا صح التعبير حالة المنزلة ما بين منزلتين، صحيح أن البلاد في غمرة تحول سياسي، ولكنها من جهة أخرى، سجلت تراجعات كبيرة داخل المجتمع، وخصوصا في باب العجز الديمقراطي البارز في سير المؤسسات السياسية، (أحزاب، حكومة، برلمان،.. الخ) وعلى مستوى بعض الممارسات التي تتفاقم مثل التحكم والالتفاف على القوانين القائمة،…الخ.
هنا يطرح السؤال، كيف انعكست هذه الوضعية على مشاركة منظمات المجتمع المدني في تدبير الشأن العام.

2. مشاركة المجتمع المدني في تدبير قضايا الشأن العام.

أصبح المجتمع المدني يشكل قوة اقتراحية، مما جعله يحظى باهتمام السلطات الحكومية التي لجأت إلى استشارته في معظم القضايا الكبرى التي تهم مستقبل البلاد، واعتماده شريكا أساسيا في التخطيط لمجموعة من المشاريع الاجتماعية، وتطور الأمر إلى ترسيخ أسلوب الشراكة في تنفيذ المشاريع الإنمائية على مستوى الخدمات الأساسية وخاصة بعد تبني المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وهذا ما يؤشر على تحول مهم في علاقة الدولة بالمجتمع المدني، ليس فقط في مجال التنمية البشرية بل في مختلف المجالات.
ففي مجال التربية والتكوين، وللقضاء على ظاهرة الأمية اعتمدت الدولة عدة استراتيجيات ابتدأت بتجربة الحملات الوطنية وفي بداية الثمانينات شرعت في التعاون مع جمعيات ومنظمات المجتمع المدني من خلال دعم العمل الجمعوي بعد أن تأكدت مردوديته في التعليم لاسيما في المداشر والقرى، وفي الفترة الأخيرة عقدة عدة شراكات مع النسيج الجمعوي للمساهمة في محو الأمية والتربية غير النظامية.
والملفت للانتباه هو المساهمة الفعالة والدور الريادي لجمعيات المجتمع المدني في رفع تحدي الأمية التي تشكل عائقا كبيرا أمام تنمية البلاد، فكل الملاحظين والمتتبعين للشأن المدني بالمغرب يعترفون بالدور الطلائعي الذي تلعبه جمعيات ومنظمات المجتمع المدني في محاربة الأمية سواء على مستوى تعليم الكبار أو على مستوى التربية غير النظامية للأطفال والشباب أو مكافحة التسرب أو تحسين بيئة التعليم أو الاهتمام بتعليم فئات ذوي الاحتياجات الخاصة، كل هذه المجالات اكتسحها العمل الجمعوي وأصبحت تشكل بالنسبة له حقلا للنشاط والمساهمة والمشاركة والخلق والإبداع، وبالملموس حققت الجمعيات المغربية قفزة نوعية من حيث أنشطتها ومن حيث أعداد المستفيدين، فمن خلال حصيلة ثلاث مواسم من 1998 إلى 2002 والتي سجلت 371.300 مستفيد ومستفيدة بمعدل وصل إلى 2500 مستفيد لكل جمعية، تظهر أهمية دور المجتمع المدني كشريك أساسي للدولة في التربية غير النظامية ومحو الأمية، والذي بفضله أصبحت الأمية تتراجع سنة بعد أخرى وهو الشيء الذي من شأنه تمهيد الطريق نحو تحقيق التنمية الإنسانية.
والى جانب قطاع التربية والتكوين يمكن أن نشير كذلك إلى المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، فبعد سنوات من التدبير المركزي للتنمية البشرية اهتدت الدولة إلى مقاربة تشاركية تستفيد من التراكم الذي حققه العمل الجمعوي في المجال التنموي مستفيدة من التجارب التنموية الدولية التي تبرز أن التنمية المندمجة والتشاركية تشكل الإطار الأمثل لبلورة السياسات الاجتماعية والاقتصادية الوطنية بصفة عامة.
و لعل ذلك عائد بالأساس إلى العديد من الاعتبارات أولها عجز التدبير المركزي وعدم تمكنه من مقاربة مختلف العمليات التنموية طبقا للخصوصيات الجهوية المحلية، ويتجلى ثانيها في الميزات والنتائج الناجحة التي توفرها اللامركزية في الاستغلال وترشيد الثروات، بالإضافة لما يوفره هذا الأسلوب من إطار ديمقراطي يسمح لجميع أطراف المجتمع المساهمة في العملية التنموية.
وتكمن خصوصية المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في قيامها على جوهر ديمقراطي مبني على الإصغاء والتشاور مع القوى الحية، وانتهاج مقاربة التشاركية والتعاقدية، وفتح باب أمام إسهام النسيج الجمعوي في برامجها بشكل يستجيب لتطلعات الساكنة في تحديد حاجياتها و أولوياتها، وذلك بكيفية تعتمد اللامركزية و عدم التمركز والقرب والشراكة والتدبير الجيد.
كما تكمن أهمية هذه المبادرة في المرونة التي تعتمدها، وفي صلاحيات الواسعة المخولة للجان التنمية، والتي يمثل فيها المجتمع المدني على المستوى الترابي بالثلث، و يساهم في برامجها عن طريق انجاز المشاريع وتتبعها ومراقبة وممارسة الرقابة عليها، فمن خلال الاطلاع على تقرير اللجنة الاقليمية للتنمية البشرية بمدينة مكناس مثلا، بمناسبة الذكرى الخامسة لانطلاق المبادرة، ومن خلال التتبع الميداني، يلاحظ الدور الهام للنسيج الجمعوي المحلي ممثلا في "الشبكة الجمعوية للتنمية التشاركية" التي تكاد تهيمن على كل مل يتعلق باقتراح و تدبير المشاريع المتعلقة بالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وهو ما يسير بالفعل نحو مطالب المقاربة التشاركية الحقيقية بين الجمعيات والسلطات المحلية من أجل تحقيق تنمية فعلية وشاملة.
ومادامت المبادرة جاءت من أجل الإنسان ومن أجل كرامته، في عملية مبنية على التشاور والثقة في المستقبل، فقد جعلت من ركائزها الأساسية إشراك كل المستفيدين والفاعلين الجمعويين في التنمية المحلية، مشكلة مرجعا وإستراتيجية للحكامة الجيدة.
ولذلك خصت النسيج الجمعوي في عملية التفعيل بدور أساسي يقوم على ثلاث مستويات تتجلى من خلال عمليات عملية تحديد المستفيدين من برامج المبادرة، ثم خلال تحديد العمليات التي ستتم برمجتها، بالإضافة إلى حضوره البارز في عمليات التنفيذ.
وتشبعا بروح المسؤولية وبثقافة التقويم والمحاسبة التي ميزت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، فقد ثم وضع آلية التقويم وامتحان مدى قدرة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على تحقيق أهدافها المسطرة وهو ما يسمح للمجتمع المدني في التقييم.
كل هذه الأمثلة تؤكد على الدور الهام الذي تقوم بها المنظمات المدنية في تدبير القضايا الأساسية للمجتمع لاسيما بعد اعتماد المقاربة التشاركية حتى قبل دستور 2011، أما بعد إقراره و تنصيصه لأول مرة وبشكل واضح على مبدأ الديمقراطية المواطنة والتشاركية، فقد فتح المجال لإيجاد صيغ لضمان مشاركة فعالة للمجتمع المدني، مشاركة لاشك أنها ستنطلق من تعزيز ما هو موجود، على مستوى تراكم تجارب جمعوية في ترافع لدى السلطات العمومية ومبادرات هذه الأخيرة لإشراك منظمات المجتمع المدني، في تدبير العديد من القضايا الأساسية. ( (يتبع)