“أي دور للمجتمع المدني في تدبير الشأن العام من خلال الدستور الجديد” محاولة في التحليل -2-

“أي دور للمجتمع المدني في تدبير الشأن العام من خلال الدستور الجديد” محاولة في التحليل -2-

المحور الثاني : مستوى المشاركة في تدبير شؤون الدولة والمجتمع

بداية لابد من التذكير، واستنادا إلى بعض عناصر التحليل السابق، بأن تعزيز العلاقة بين المجتمع المدني والبرلمان وبينه وبين الجماعات الترابية ، يعني خلق مساحة جديدة لفكرة المشاركة، المشاركة التي لم تعد تعني فقط حالة ولحظة المواطن الناخب، فالبرلمان والمجالس المنتخبة لو تعد مطمئنة إلى ولايتها التشريعية كتفويض بدون متابعة من طرف المجتمع وقواه المدنية، وإشكاليات التباعد المتواصل بين العالم السياسي وبين المجتمع والمواطنين لاشك أنها خلقت الحاجة إلى أجوبة متعددة، يبقى التواصل المدني مع مؤسسات المنتخبة، أحدها بامتياز.
فكيف تطور التفاعل المدني البرلماني في تجارب المعاصرة، وماذا عن التجربة المغربية بخصوص مشاركة المجتمع المدني في تدبير الشأن المحلي؟

أولا : المساهمة في العمل التشريعي.

شهد التعاون بين السلطة التشريعية ومنظمات المجتمع المدني تطورا ملحوظا في دول العالم خلال السنوات الماضية ويستمر تطوره وتشكله وفقا لما تتطلبه احتياجات المواطنين، وهناك توجه جلي في الوقت الحاضر لتوسيع نطاق وأشكال التعاون ومأسسة هذه الشراكة وضمان استمرارها واستدامتها.
لذلك سنحاول رصد تطور التفاعل المدني البرلماني، وبحث مدى مساهمة هذا التطور في إتاحة الفرصة للمجتمع المدني المغربي للمساهمة في العملية التشريعية.

  1. التفاعل المدني البرلماني في التجارب المعاصرة

إذا كانت المجالس المنتخبة هي المؤسسات المركزية للديمقراطية التي تجسد إرادة الشعب، وتعبر عن جميع توقعاته، وتساعد في حل أكثر مشكلاته اليومية إلحاحا، وبوصفها الهيئات المنتخبة التي تمثل المجتمع بكل أطيافه، فان البرلمانات أصبحت تجد صعوبة كبيرة في الوفيق بين المصالح و التوقعات المتعارضة للمجموعات المختلفة عبر الوسائل الديمقراطية المتمثلة في الحوار والترضيات.
لذلك، وخلال قيامها بدورها على النحو المرجو مرت المؤسسة التشريعية نفسها بتغيرات كبيرة بغية التكيف مع تحديات المجتمع، والتغلب على مفارقة التطور الديمقراطي المصحوب بالتباعد بين المواطنين والشأن السياسي.
وعمل على ترسيخه من خلال القرار الذي اعتمدته بالإجماع جمعيته المائة وثلاثة عشر المنعقدة بجنيف في 19 أكتوبر 2005 تحت عنوان "أهمية المجتمع المدني وتفاعله مع البرلمانات وغيرها من الجمعيات ديمقراطيا من أجل تطوير الديمقراطية وتنميتها" والذي جاء في مقدمته:
"إذ تدرك الجمعية أن الالتزام الصادق والفعال بالتفاعل بين المجتمع المدني والبرلمانات وغيرها من الجمعيات المنتخبة ديمقراطيا استثمار سياسي طويل الأمد شأنه أن يسهم، إذ أدير على الوجه الصحيح، في كفالة السلم، والعدل والرفاه وزيادة مشاركة المواطنين وزيادة فعالية المؤسسات التمثيلية ومشروعية الحكومات، وإذ تؤكد العلاقة الوطيدة بين الديمقراطية والمجتمع المدني، وكذلك دور المجتمع المدني في تنمية الديمقراطية وتعزيزها، وفتح باب التغيير الذي لابد منه لعمليات التنمية، إذ تدرك أن البرلمانات تشكل، بما تمتلكه من اختصاصات منتديات ممتازة للتحاور بشفافية وحرية مع مختلف أشكال المجتمع المدني، وإذ تدرك أهمية التفاعل الخلاق بين البرلمانات والمجتمع المدني، خاصة في سد الفجوة بين مختلف الجماعات المحلية والهيئات الحكومية ومنظمات القطاع العام، ومؤسسات القطاع الخاص، والجمهور، فإنها تناشد البرلمانات والحكومات كافة تشجيع التفاعل البناء مع مجتمعاتها المدنية بغية تعزيز الطابع التشاركي لديمقراطيتها إلى أقصى حد ممكن…، واعتماد قواعد وإجراءات يمكن أن تكفل حوارا فعالا مع المجتمع المدني في مجال الاضطلاع بالمهام البرلمانية، كما تشدد على أهمية إقامة البرلمانيين لاتصالات مباشرة مع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني والمواطنين عموما، سواء على مستوى الدوائر، بإنشاء وجود برلماني يمكنهم أن يستقبلوا فيه من يمثلوهم، أو على المستوى الوطني أو الدولي باستخدام تكنولوجيات المعلومات والاتصالات مثلا"
وسيرا على نفس النهج يوصي المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة، لتحقيق البرلمان الصالح لضرورة فتح قنوات تواصل بين المؤسسات النيابية وبين المواطنين والمجتمع المدني، خارج شكلانية العلاقة بين الناخب الحر في لحظة اختياره وبين المؤسسة التشريعية المحصنة بمشروعيتها طوال مدة الولاية، ففي إطار المبادئ الأساسية التي يقترحها خبرائه نجد “مبدأ التمثيل والمشاركة” والتي لا يمكن أن تتحقق في نظرهم إلا بتوفر عدة شروط منها : التواصل مع المجتمع المدني واستشارته، وتنظيم جلسات استماع دورية للمعنيين في المجتمع المدني في اللجان والجلسات العمومية في البرلمان.
على هذا الأساس فقد شهدت السنوات الأخيرة جهودا عديدة في برلمانات كثيرة لكي تتواصل بشكل أكثر فعالية مع المجتمع المدني وتحسين طريقة أدائها ولكي يكون أصدق في تمثيل ناخبيها والتواصل معهم والمسائلة أمامهم، وأكثر انفتاحا وشفافية في إجراءاتها، والاضطلاع بأداء مهامها الرئيسية المتصلة بالتشريع ومراقبة الحكومة.
فهذا البرلمان الأوروبي وحتى يضمن نوع من الشرعية على أعماله فقد عمل منذ منتصف التسعينات على إغناء الشرعية المكتسبة عبر الانتخابات بشرعية أخرى مستمدة من منظمات المجتمع المدني، ففي ظل تفشي العزوف الانتخابي ورغبة في عدم البقاء رهينة لأصحاب المصالح (جماعات الضغط) بدأ البرلمان الأوروبي في الانفتاح على القطاع الجمعوي مند سنة 1995 خصوصا من طرف"اللجنة الاقتصادية والاجتماعية الأوروبية" التي وضعت آليات للتشاور ترتكز على الحكامة، وذلك في نفس الوقت الذي بدأت فيه الفعاليات المدنية في تنظيم صفوفها، وهو ما عجل بخلق "المنتدى الدائم للمجتمع المدني" كآلية للتشاور المدني البرلماني في إطار نقاش حول مشروع أوروبا أكثر قربا من المواطنين.
وثمة طرق أخرى مختلفة التنظيم عملية المشاركة المدنية في التجارب المعاصرة، حيث تعتبر بعض البرلمانات”المنظمات المدنية التي تمثل موضوعات معينة أو مصالح معينة هي الجهة الأنسب لنقل أراء المجتمع المدني، لذلك ترسل هذه البرلمانات دعوة خاصة إلى المنظمات المعروفة باهتمامها بالتشريع أو تحقيق معين قيد الدراسة، وتطلب منها إرسال تقاريرها وهذا ما فعله البرلمان التركي بصدد إعادة النظر في قانون العقوبات عام 2004 ، وفي نوزيلندا يوجه البرلمان دعوة مفتوحة لتلقي ملاحظات المواطنين من جميع الجهات المعنية، أفرادا أو منظمات من خلال الصحافة أو غيرها من وسائل الإعلام وذهبت برلمانات أخرى أكثر من ذلك عندما “بادرت في هذا الصدد إلى عقد جلسات اجتماع حول التشريعات في الوحدات المحلية الموجودة على امتداد التراب الوطني (الفليبين)، وتوجد في برلمانات أخرى مجالس استشارية تتألف من ممثلين عن منظمات غير حكومية وخبراء تتبع لجان دائمة معينة كما هو الشأن في تونس وقبل الثورة، في حين تتضمن تجارب أخرى مشاركة منظمات مدنية من خلال منتدى دائم للحوار المدني البرلماني كحالة لبنان.
أما بالنسبة للنموذج الكندي، فتبقى اللجان البرلمانية هي المدخل الذي من خلاله تعمل منظمات المجتمع المدني على توضيح وجهة نظرها بخصوص القضايا المثارة، فبصدد اتفاقية التبادل الحر مع أمريكا مثلا دشنت اللجنة الدائمة للشؤون الخارجية والتجارة الدولية سلسلة من اللقاءات المنتظمة مع منظمات المجتمع المدني ودخلت في مفاوضات واسعة النطاق مع مختلف الفاعلين مما ساهم في جعل الاتفاقية أكثر شفافية وألزم أطرافها على جعلها أكثر احتراما للبيئة وللحقوق الأساسية للمواطنين.
وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى اختلاف نوع و مستوى تعاطي مؤسسات المجتمع المدني –السياسية منها على وجه الخصوص- مع السلطة التشريعية طبقا لتكتيكات المرحلية التي تتخذها تلك المؤسسات وفقا لأوضاعها الخاصة وبرامجها العامة ووفقا لما يتمخض عن كل دورة تشريعية من قوانين و تشريعات مجتمعية، وفي كل الأحوال تبقى تلك المؤسسات صوت الشعب الذي يتفاعل بايجابية مع السلطة التشريعية. وكلما تفاعل المجتمع بمؤسساته وأفراده مع البرلمان، وكلما أخضع عمله للتقييم المستمر، أمكن تحقيق التقويم المطلوب لتطوير العملية السياسية، ويمكن التقويم المتواصل أن يحدث التغييرات المطلوبة و يرسي النصوص المعززة لدور السلطة التشريعية الرقابي و التقويم… تلك هي سبل التعاطي الحيوي والايجابي للمجتمع المدني مع السلطة التشريعية، فكيف هو الحال في التجربة المغربية؟
وعلى العموم –ومن خلال التجارب السالفة الذكر- يبقى”لمؤسسات المجتمع المدني وأفراده أثر عظيم في نجاح العملية البرلمانية أو فشلها في أي بلد من البلدان. فإما أن يكون المجتمع المدني رافدا للعمل البرلماني ومعززا لمسيرته وإما عائقا ومعرقلا لعمله وتطور دوره في المجتمع، وليس المقصود برفض العمل البرلماني وتعزيزه الموافقة الدائمة والتأييد المطلق لكل ما تتخذه السلطة التشريعية من مواقف وتقره من قرارات، بل هو اتخاذ الموقف الداعم للسلطة التشريعية حين يصب أداؤها في صلب الدفاع عن حقوق الشعب ومصالحه، واتخاذ الموقف المناهض لها حين ينتقص أداؤها من حقوق الشعب ومصالحه.

  1. تفاعل المجتمع المدني مع العملية التشريعية في التجربة المغربية

شهدت العلاقة بين البرلمان ومنظمات المجتمع المدني في المغرب ما قبل 2011 غياب الإطار القانوني المنظم لها، فكل من الدستور، وكذا القانونين الداخليين المحددين لتنظيم مجلس النواب ومجلس المستشارين، لم يتضمنا أية إمكانية لمشاركة المجتمع المدني في العمل البرلماني أو لجعل البرلمان فضاء عموميا للنقاش والحوار وتبادل الآراء والأفكار.
ومع ذلك، فغياب الإطار القانوني لمشاركة منظمات المجتمع المدني في العمل التشريعي والرقابي عن طريق الاستماع لها وإبداء رأيها في مبادرات القوانين أو محاسبة الحكومة، وعدم اهتمام أي لجنة من لجان البرلمان الست بالنشاط الجمعوي، وغياب قانون الحصول على المعلومة الذي يضمن حق الجمهور في الوصول إلى جميع المعلومات في مختلف مراحل العملية التشريعية، كل ذلك لم يمنع بروز ممارسات حاولت السير في هذا الاتجاه، لأن منطق الأمور يقول بأن هناك مراحل للتحضير عادة ما تسبق إخراج مشاريع ومقترحات القوانين، يساهم فيها فاعلون آخرون يقومون باقتراح أفكار أو يشاركون فيها، سواء بشكل تلقائي أو بطريقة منظمة.
فإذا كانت أساليب تحضير القوانين تعد بالفعل شأنا برلمانيا فان ما يهمنا هنا هو التعرف عن ظروف النشأة الأولى لفكرة التشريع في موضوع ما سواء في شكلها التلقائي أو عندما تلجأ الوزارة التي يعنيها أمر نص ما إلى الاجتهاد في خلق الظروف الممهدة لإعداده بشكل تشاركي تضمن من خلاله إرضاء أكبر قدر ممكن من المعنيين وبالتالي توفير سبل نجاح ذلك النص وبقائه صالحا أكبر مدة ممكنة.
والملاحظ أن المسطرة التي استقرت في الواقع المغربي أصبحت تفرز على المستوى مرحلة التحضير التي تسبق التوصل إلى إعداد الصيغة النهائية للتشريعات التلقائية تتدخل على إثرها منظمات المجتمع المدني في إبداء الرأي فيما قد يعرض عليها من أرضيات أولية تخص بعض التشريعات، مستفيدة من تطور خبرات المجتمع المدني المغربي في مختلف قضايا تدبير الشأن العام وتزايد حالات مناقشة الملفات الكبرى التي تهم الشأن العمومي وفق منظور وفلسفة التدبير التشاركي.
فبعد سنوات من احتكار البرلمان للتمثيلية، وتوجس البرلمانيين من منظمات المجتمع المدني، أصبح ممثلي الأمة كما يدعون يخطبون ود هذا المجتمع خصوصا بعد انفجار الحركة الجمعوية وتنامي أنشطتها منذ تسعينات القرن الماضي إذ أصبح ينظر إليها كقوة حقيقية وفي بعض الأحيان كعائد انتخابي من شأنه تسهيل ربط علاقات مباشرة مع المواطنين، فالمؤكد أن هناك اليوم علاقة تفاعلية بين البرلمان والمجتمع المدني (الأخذ والعطاء، الثناء المحاسبة، التقييم، التقويم) وان بشكل متقطع وغير منتظم، فمؤسسات المجتمع المدني هي بمثابة ضمير الوطن الواعي الذي يتفاعل بايجابية مع السلطة التشريعية، وهذه الأخيرة هي المؤسسة التي يتوجه إليها المجتمع المدني والمواطنون على حد سواء للحصول على الدعم لقضاياهم، وبدوره كثيرا ما يعتمد البرلمان على المجتمع المدني لتخطي المشاكل التي تقف في وجه التطور البرلماني، لأن وعيا بدأ يتبلور بأن تعزيز هذه العلاقة يخلق مجالا جديدا للفكر و المشاركة، فدور المواطن لم يعد يقتصر على الانتخاب فحسب، بل يتعدى إلى محاولة ضمان مشاركة فعالة للمواطن في العملية السياسية من خلال تواصل منظمات المجتمع المدني والبرلمان، وإمكانية مساهمتهما في العمل البرلماني، التي أصبحت أحد المؤشرات الحاسمة والأساسية في تقييم أهمية الوظيفة البرلمانية وإحدى دلائل الأداء البرلماني القيم.
داخل هذا السياق، وفي حالة ما إذا رجعنا إلى مرحلة التحضير الأولية للمواد التشريعية في التجربة المغربية فسنلاحظ "أن المبادرة الشكلية والمباشرة في التشريع والتي ترتكز حول صياغة مقترح نص قانوني يتم إيداعه لدى مكتب أحد مجلسي البرلمان تسبقها على العموم عملية طويلة ومعقدة عادة ما تتعلق بتجميع وتكوين الأفكار وإنضاجها، وهذه هو الشق الذي يظل بعيدا عن الأنظار والذي يكون فيه دور المجتمع المدني أساسيا وكذلك الأمر بالنسبة للفترات اللاحقة التي تشكل مراحل النقاشات العامة والتي يمكن اعتبارها متممة للعمل الأصلي في إطار حق التعديل المخول دستوريا للبرلمانيين والتي يمكن للمنظمات المدنية كذلك أن تقدم مقترحاته بشأنها إما مباشرة أو عبر وسائل الإعلام.
"فالمشروع أو المقترح الذي يوجد مودع لدى مكتب أحد مجلسي البرلمان والذي لا يعد على العموم سوى نقطة انطلاق للمسطرة التشريعية، هو في الحقيقة نتيجة تطور غير واضح يمر عبر مجموعة من العقول والتجمعات المختلفة، وكذا بعض الأفكار التي يصعب أحيانا تشخيص مصدرها والتي تم توسيعها تدريجيا وتعديلها وإغناؤها أو الحذف منها قبل أن يتم التقدم بها" وهنا يتجلى دور المجتمع المدني سواء من خلال تجارب ترافع الجمعيات أمام البرلمان أو تقاليد تنظيم الفارق النيابية لأيام دراسية بشراكة مع منظمات المجتمع المدني، أو الكثير من الحالات التي كان فيها المجتمع المدني مصدرا للإيحاء التشريعي.
وكما تأكد ذلك في التجربة المغربية، حيث تنعدم أي آلية لتنظيم إشراك منظمات المجتمع المدني في العمل البرلماني من الداخل، لذلك، -وحتى عندما لا توجد إمكانية التدخل بمبادرة من النواب و المستشارين- فان هذه المنظمات لا تدخر جهدا للعمل من خارج الهيئة التشريعية كقوة ضغط على غرفتي البرلمان، يساعدها في ذلك وجود صحافة مستقلة جزئيا ومستوى تجنيد متفاوت القوة حسب متغيرات الظرف السياسي والاقتصادي المتقلب، وفق هذه المقاربة اشتغلت المنظمات النسوية مثلا للمطالبة بحصول المرأة على نسبة تواجد معتبرة في قوائم الترشيحات للانتخاب، وقد تطلب الأمر من هذه المنظمات تنظيم صفوفها أولا ثم الاتصال بمختلف الفعاليات رسمية وغير رسمية، والقيام بدراسات مقارنة حول مشاركة المرأة في العمل السياسي والهيئات السياسية الرسمية كالبرلمان والحكومة، مما سمح لها بوضع مذكرة تتضمن عدة اقتراحات للوصول إلى تمثيل عادل للمرأة على مستوى المؤسسات السياسية والعمومية، وهو ما تأتى لها فعلا بعد نضال طويل ومرير.
هذا النموذج يدفعنا إلى التساؤل عن الدور الحقيقي والمباشر للمشرع في الموضوع، فلا غرابة إذن أن نستنتج مع البعض أن القاعدة القانونية في الواقع إذا ما تم سنها فذلك لأن قوة اجتماعية قد فرضت وجودها بعدما انتصرت على قوى أخرى كانت تعارضها، أو لأنها استفادت من عدم مبالاتها، وبذلك فان المشرع الذي يستمع إلى جميع الأصوات والتي غالبا ما يوجد تنافر فيما بينها، فانه يرضخ لأقواها أحيانا دون علم بمصدرها الحقيقي وحتى في لحظة المناقشة فان العديد من القوى المدنية تتدخل (مطالب، مذكرات، وقفات…) من أجل الاقتراح أو الدفع بتعديل التشريع القائم، كما أنها تسعى إلى تقديم أفكار جديدة بهدف حث المشرع على تبني أرائها واحترام مصالحها.
بهذا الخصوص، "فان ما يمكن إقراره هو أن ضغط بعض القوى الاجتماعية يحول في الغالب البرلمان إلى مؤسسة على هامش الحوار العمومي، حيث يتم التراضي على بعض القوانين خارج المجال المؤسساتي، وبعد ذلك فقط تتم إحالة المشاريع إلى البرلمان ليصادق عليها بشكل أوتوماتيكي، بشكل استنتج معه كثيرون بأن “النقاش السياسي يتم في كثير من الأحيان ليس داخل البرلمان وإنما في أمكنة أخرى ليس من بينها الهيئة التشريعية"
من جهة أخرى، ورغبة كذلك من أصحاب المبادرات التشريعية في أن تتم صياغة القوانين في أحسن الظروف ووضعها تحت أنظار ممثلي الرأي العام قبل التداول في شأنها والتصويت عليها من طرف البرلمان كثيرا ما تعمد الفرق البرلمانية إلى تنظيم أيام دراسية لمناقشة بعض المواضيع ذات العلاقة بالنصوص القانونية المطروحة للمنقاش بشراكة مع منظمات المجتمع المدني، مما يساهم في حضور الجمعيات وإيصال صوتها حول القضايا المطروحة للدراسة، كما قد لا تكون لهذه الأيام الدراسية علاقة بالنصوص قيد المناقشة فحسب بل قد تتطرق لقضايا وطنية أو دولية، ما يسمح بدعوة بعض الجمعيات والهيئات المهنية ذات الوزن الكبير لإبداء أرائها في النصوص القانونية المتعلقة بمجالات اهتمامها، ومما يساعد في ذلك وجود برلمانيين ذوي صلاحية قوية مع المجتمع المدني، أو من أبناء هذا المجتمع نفسه، الذين لا يزالون على علاقة به وبمؤسساته المختلفة، والمتميزين بقوة حضور معقولة في البرلمان كنواب أو أعضاء في مجلس المستشارين.
إضافة إلى ما سبق "فان تشعب بعض القضايا قد ترغم البرلمانيين إلى اللجوء إلى بعض الخبراء فالبرلمان قد يتمكن من الحصول على المعلومات عن طريق الاستماع إلى الأشخاص أو ناطقين باسم الهيئات والتنظيمات المعنية الذين يكونون على علم بالموضوع، واكتسبوا خبرة واسعة و راكموا تجربة كبيرة بحكم التخصص فيه " كما أن أهمية المصالح القائمة كثيرا ما تدفع ببعض الفاعلين إلى التدخل خاصة على مستوى اللجان من أجل توجيه القرارات البرلمانية لصالحها، بل أن "بعض مجموعات الضغط كثيرا ما تلح على إشراكها أثناء تحضير بعض مشاريع القوانين إذا ما ظهرت الحاجة إلى تغير التشريعات القائمة التي تسري عليها بشكل خاص” وهذا ما يفسر تنامي دور بعض المنظمات والتي أصبحت تحتل مركزا رئيسيا بل ومحوريا في العملية التشريعية.
إذن فالمجتمع المدني في الوقت الراهن أصبح يؤدي دورا هاما في مساعدة البرلمان وتكملة نشاطه في خدمة المواطنين وتحقيق المصلحة العامة في مختلف الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، بصفة عامة وفي مراقبة الأداء الحكومي وتقويمه بصفة خاصة.
اليوم مع دستور 2011، الذي أعطى مكانة متميزة للمجتمع المدني وأتاح إمكانيات كبيرة لتفعيل العمل البرلماني، تبدو الحاجة ملحة لترسيم هذه العلاقة، على اعتبار أنه كلما تفاعل البرلمان مع المجتمع بمؤسساته وأفراده، وأخضع عمله للتقييم المستمر من طرف الشعب، أمكن إحداث التغييرات المطلوبة، وإرساء النصوص العاكسة لتطلعات المجتمع وآماله وتحقيق التقويم المطلوب لتطوير المسار الديمقراطي وإثرائه.

ثانيا : المشاركة في تدبير الشأن المحلي

إن الحديث عن التنظيم الجماعي بالمغرب ذو صلة وثيقة بالحديث عن الديمقراطية وإستراتيجية وتوجهات مختلف القوى الفاعلة فيه منذ الاستقلال إلى الآن "فظهور وتطور طبيعة التنظيم الجماعي التي شهدتها العديد من التجارب التاريخية خاصة في الغرب قد ارتبط بحركية ودينامية الصراع الاجتماعي والاقتصادي والاديولوجي، أي أن ولادتها وتطورها كان بفعل التحولات التي حصلت في البنيان الاقتصادي والاجتماعي، هذه التحولات التي أفرزت نظريات فلسفية وسياسية جديدة فسحت المجال واسعا لمشاركة المجتمع المدني في تدبير الشأن المحلي، اعتبرت بمثابة أركان المشروع الحضاري الجديد الذي لم يكن للمغرب أن ينىء عنه، فالتحولات التي يعرفها المجتمع المغربي، سواء على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، أصبحت تفرض أكثر من أي وقت مضى انخراط كل المكونات الفاعلة في المجتمع والقيام بعمل تنسيقي وتكاملي بين المجتمع والفاعلين لاستيعاب هذا التحول وكسب رهان التنمية الشاملة المستدامة.

  1. دعم المجتمع المدني للتنمية المحلية

إن المشاركة كشكل للعمل والتعاضد بين الجماعات الاجتماعية على المستويات المحلية هي عتيقة جدا بالمغرب فمعلوم لدى المغاربة خصوصا بالعالم القروي بأنهم يتعاضدون انطلاقا من المستوى الأدنى إلى المستوى الجماعي عبر انجاز الأوراش والأشغال والأنشطة لصالح الفرد أو عدة أفراد أو لصالح الجماعة.
وحتى عهد قريب كان للساكنة دور كبير في إنجاز بعض الأوراش الكبرى بالمملكة كتلك المتعلقة بعملية إنشاء طريق الوحدة وتنفيذ برنامج التنمية الاقتصادية والقروية للريف المغربي ونفس الأمر يمكن أن يقال عن مساهمة الساكنة القروية في إنجاز المشاريع المحلية للتنمية من خلال مؤسسة الإنعاش الوطني التي أنشأت منذ 1961، أو من خلال العمل التعاوني التضامني والذي تم تأطيره بإنشاء السلطات العامة لمكتب تنمية التعاون كهيئة عامة بغرض التأطير والمساعدة في إنشاء التعاونيات وتنمية وتشجيع الحركة التعاونية بالمغرب.
كما أن انطلاق المنظمات غير الحكومية في العمل التنموي منذ بداية التسعينات وتراكم خبرات المجتمع المدني في التنمية المحلية شجع على إدخال المقاربة التشاركية خصوصا من طرق هيئات التمويل والمساعدة الخارجية في برنامج التمويل التي تشارك فيها مما شجع على اعتماد الدولة لبعض المشاريع الاستثمارية الكبرى وتنفيذها بشكل تشاركي كبرنامج تزويد العالم القروي بالماء الصالح للشرب وبرنامج الكهربة القروية، أو تشجيعها لبعض المبادرات التي تبنتها الجمعيات خدمة لقضايا السكان المحليين (الطرق، الآبار، المدارس…).
كل هذا لم ينعكس على اعتماد السلطات العمومية للمقاربة التشاركية على المستوى المحلي بشكل مهيكل بل ظلت الدولة متعددة الأبعاد والمجالات والاختصاصات، ولا يكاد يفلت من زمامها مجال من مجالات الحياة، بل ظلت تفرض مراقبة لصيقة على الفضاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي المحلي، غير أن هذا الحضور القوي كان من سلبياته بت الدولة في كل القضايا التي تهم مواطنيها الأمر الذي ضخم مسؤوليتها وأثقل أعباءها، ومن هنا جاء التفكير في تشجيع ديمقراطية محلية تقوم على إشراك المواطنين أنفسهم في إدارة شؤونهم المحلية.
فالدولة التي تبنت نظام الوصاية على الجماعات المحلية سرعان ما أدركت أن ثقل الوصايا يضعف أداء المنتخبين ويقيد سلوكهم، ويجعل ممثلي الدولة هم المنفذين والمخططين لكل سياسة محلية، فقررت الانتقال من نموذج الوصايا إلى نموذج الوقاية البعدية معيدة بذلك الاعتبار للمنتخبين الجماعيين الذين أصبحوا يتحملون مسؤولياتهم كاملة في إدارة الشأن المحلي.
ولم يقتصر الأمر على هذا بل تطور الأمر إلى اعتماد سياسة القرب كمنهجية في التدبير العمومي تعتمد على المقاربة التشاركية، فالجماعة المحلية التي أريد لها أن تكون رافعة للتنمية المحلية لا يمكن أن تواجه جميع التحديات والاكراهات التي يزيد من حدتها قلة الوسائل المالية وكذلك البشرية ناهيك على ثقل المساطر الإدارية.
وكذلك الشأن بالنسبة للجمعيات التي لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تحل محل المؤسسة الجماعية لكونها تنظيم مدني مبني على التطوع الإرادي ولا تعكس إلا التوجهات الخاصة بها، ناهيك عن عدم قدرتها بمفردها على رفع تحديات التنمية.
غير أن الجمعية يمكن أن تكون شريكا للجماعة مع الشركاء الآخرين في تدبير الشأن المحلي وذلك لعدة اعتبارات منها:

أن الجمعيات المحلية تعتبر تعبيرا عن الإرادة الشعبية ولأنها أكثر التصاقا بالمواطن وهمومه خصوصا في المجال القروي حيث تغيب كل أشكال التأطير سواء من طرف مؤسسات الدولة أو الأحزاب. وتبقي الجمعيات المنتدى الوحيد الذي تتلاقح فيه الأفكار والاقتراحات الشعبية والملجأ الوحيد للفئات المعوزة والمهمشة لطرح قضاياهم.

أن التجربة أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن الجمعيات تشارك بنشاط في تنمية الخبرات المحلية وتحرير المواطنين عبر انجاز مشاريع توفر فرصا للشغل وتعزز من البنيات التحتية الأساسية وتسهم في الحد من تفاقم الأمية وفي الإدماج الفعلي لكل الفئات المقصية في عملية التنمية رغم ضعف الإمكانات.

أن إشراك الجمعيات، التي أصبحت تمتلك خبرات مؤكدة ومؤهلات لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكارها يقدم ثلاث فوائد:
على السكان، وهي الملتصقة بهم أكثر، يشاركون في تنمية الموارد البشرية وتحسين النتائج المنتظرة من المشاريع التنموية.
ىالإستفادة من قدرة الجمعيات على الإنعاش مشاركة المواطنين في الحياة المحلية العامة مما يعني إعادة النظر في الاحتكار المزعوم للتمثيلية من طرف المنتخبين وتشجيع شكل جديد من العلاقة بين الممثلين والممثلين، يتميز بالحق في إبداء الرأي ومراقبة المواطنين المنتخبين
تسهيل عملية تحديد انشغالات السكان لأن الجمعيات يمكن أن تلعب دورا مهما وأساسيا في تشخيص الحاجات واقتراح الحلول وإنجاح الخطط التنموية
الدعم والثقة الذين تتمتع بهما الجمعيات المحلية على المستويين الدولي والشعبي وهو الأهم.
وعلى العموم، فقد عكست تجارب المختلفة في السنوات الأخيرة أهمية ونوعية مشاركة المجتمع المدني في التدبير المحلي، كما أن النتائج الايجابية الملموسة على أرض الواقع، واقتناع أجهزة الحكامة المحلية دفع بضرورة فتح المجال للمشاركة الفعلية للجمعيات في تأطير المجتمع- الذي ما فتئت متطلباته تزداد وتتعقد يوما بعد يوم- لما أبان عنه النضج الجمعوي في التعامل مع الواقع بأبعاده المختلفة : القدرة على التشخيص الميداني، البعد التواصلي مع المواطن والتعاطي مع حاجياته بشكل ايجابي والذي وجد دعمه في التمويلات والتعاون الدولي، غير أن هذا الرصيد كله ظل حبيس هياكل استشارية، لم تجعل بحق من الجمعيات فاعلا أساسيا على المستوى المحلي بالرغم من النداءات المتكررة التي تحت على الانفتاح على المواطنين والمجتمع المدني لتعزيز مشاركتهم في مسلسل القرار كما هو الشأن بالنسبة للمفهوم الجديد للسلطة والميثاق الوطني لحسن التدبير ، وذلك نتيجة لحالة التوجس والتخوف التي طبعت العلاقة بين الجمعيات الجادة والسلطات والجماعات المحلية، هذه الأخيرة التي ظلت تنظر إلى الجمعيات كمنافس ميداني يعيق عملها.
استمر الوضع على هذا الحال حتى جاء الميثاق الجماعي لسنة 2002 الذي أشار فيه المشرع لأول مرة إلى دور الجمعيات في الإسهام في التنمية المحلية، والذي تعزز بجملة من المبادرات على مستوى أعلى من الدولة التي تدعو إلى ضرورة إشراك الجمعيات في تدبير الشأن المحلي، فقد أصدر الوزير الأول مذكرة مؤرخة في 27 يونيو 2003 تدعو إلى إشراك الجمعيات في تدبير الشأن المحلي، كما جاءت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أعلن عنها الملك محمد السادس في 18 ماي 2005 لتعطي الحركة الجمعوية مكانة متميزة في تنمية البشرية وتحدد لها وظائف جديدة في إنجاح المشاريع التنموية للمبادرة انطلاقا من الاقتراح آلة التنفيذ والمتابعة والتقييم، هذا بالإضافة إلى العديد من الخطب الملكية التي تم التأكيد من خلالها على أهمية إشراك المجتمع المدني في تدبير الشأن المحلي.
2. الشراكة بين المجتمع المدني والجماعات الترابية
نشير بهذا الخصوص إلى الميثاق الجماعي لسنة 2002 الذي أتاح المجال لأول مرة لمشاركة المجتمع المدني في تدبير الشأن المحلي كما نشير إلى التصور الذي قدمته اللجنة الاستشارية للجهوية لإشراك المجتمع المدني في تدبير شؤون الجهات.

الميثاق الجماعي والشراكة بين المجتمع المدني والجماعات المحلية
تتجه أراء عدد من الدارسين والمتتبعين لموضوع الشأن المحلي نحو نتيجة أساسية وهي أن صدور القانون المتعلق بالميثاق الجماعي لسنة 2002 يعد خطوة ايجابية في طريق إشراك الحركة الجمعوية في تدبير الشأن المحلي، فالمقارنة بين القانون المتعلق بالتنظيم الجماعي الصادر في 3 شتنبر 1976 والميثاق الجماعي الصادر في 13 أكتوبر 2002، والمعدل سنة 2009 تجعلنا نصل إلى نتيجة مفادها أن الميثاق الجماعي الحالي أتى بمجموعة من الآليات التشاركية التي تقوي البنية التشاركية للنسيج الجمعوي وتنمي الفعل التشاركي للمجتمع المدني عموما.
بالرجوع للمادة 41 في فقرتها الثالثة فان المجلس الجماعي "يقوم بكل عمل محلي من شأنه تعبئة المواطن قصد تنمية الوعي الجمعوي من أجل المصلحة المحلية العامة، وتنظيم مشاركته في تحسين ظروف العيش، والحفاظ على البيئة و إنعاش التضامن وتنمية الحركة الجمعوية، وفي هذا الإطار يتكفل باتخاذ كل الأعمال من أجل التحسيس والتواصل والإعلام وتنمية المشاركة والشراكة مع الجمعيات القروية وكل منظمات والأشخاص المعنوية أو الطبيعية التي تعمل في الحقل الاقتصادي الاجتماعي والثقافي.
يقوم بكل أعمال المساعدة والدعم والتضامن وكل عمل ذي طابع إنساني أو إحساني ولهذه الغاية:
يبرم شراكة مع المؤسسات والمنظمات غير الحكومية والجعيات ذات الطابع الاجتماعي والإنساني.
يساهم في انجاز برامج المساعدة والدعم والإدماج الاجتماعي للأشخاص المعاقين وكل الفئات التي توجد في وضع صعب.
وفي نفس السياق تنص المادة 42 على أن المجلس الجماعي “يقوم بجميع أعمال التعاون والشراكة التي من شأنها أن تنعش التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجماعة وذلك مع الإدارة والأشخاص المعنوية الأخرى الخاضعة للقانون العام والشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين الخواص أو مع كل جماعة أو منظمة أجنبية”.
أما بخصوص الآليات التي تتعلق بتنمية البنية التشاركية للمجتمع المدني فنشير إلى المادة 38 التي جاء فيها أن من اختصاصات المجلس الجماعي : "تشجيع إحداث التعاونيات السكنية وجمعيات الأحياء”، هذا علما أن الاهتمام بهيكلة الأحياء يعتبر في الجوهر زيادة في صلابة هيكلة ومأسسة الجماعات الترابية، كما يعتبر مساهمة في إيجاد محاور يقظ للمنتخبين المحليين.
بالإضافة إلى ما سبق، فقد جاء في المادة 14 في إطار اللجان التي يشكلها المجلس لدراسة القضايا وتهيئ المسائل التي يجب أن تعرض على الاجتماع العام للمجلس لدراستها والتصويت عليها :"تحدث لدى المجلس الجماعي لجنة استشارية تدعى لجنة المساواة وتكافؤ الفرص تتكون من شخصيات تنتمي إلى جمعيات محلية وفعاليات من المجتمع المدني يقترحها رئيس المجلس الجماعي" وهو "ما يحيل إلى توسع رقعة الاهتمامات الجماعية مع إشراك الفاعلين جدد فيما يخص القضايا المتعلقة بالمساواة وتكافؤ الفرص".
وفي معرض الحديث عن الاختصاصات الذاتية للمجلس الجماعي في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية ففقد فتحت المادة 36 من الميثاق الجماعي لسنة 2006 كذلك إمكانية تشاركية جديدة ومهمة في مجال التخطيط الاستراتيجي الترابي التشاركي حينما نصت على "يقرر (المجلس الجماعي) إبرام كل اتفاقية للتعاون أو للشراكة من أجل إنعاش التنمية الاقتصادية والاجتماعية ويحدد شروط القيام بالأعمال التي تنجزها الجماعة بتعاون أو بشراكة مع الإدارات العمومية والجماعات المحلية والهبات العمومية أو الخاصة والفاعلين الاجتماعيين" وبذلك تكون قد رسخت المنهج التشاركي الواجب إتباعه بالارتكاز على مقاربة النوع عند وضع المخطط الجماعي للتنمية الذي يجب أن يتضمن وثيقتين لزوما : تشخيصا يظهر الإمكانيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجماعة، والحاجيات ذات الأولوية المحددة بتشاور مع الساكنة والإدارة و الفاعلين المعنيين.
بالبحث عن مكانة الساكنة والمجتمع المدني المشار إليها فان الوثيقة التفصيلية الوحيدة، المرتبطة بالمادة المذكورة تتمثل في دليل "المخطط الجماعي للتنمية" الذي نجده قد حاول أن يذكر بعض التصنيفات الأساسية لهذا المجتمع، وذلك على سبيل الإجمال والتمثيل فقط ، "ويقصد بالساكنة الساكنة النشيطة" سواء ضمن الهياكل الاجتماعية-المهنية والاقتصادية كجمعيات التنمية، جمعيات الأحياء، جمعيات حماية الطفل والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة والمستهلكين والمستعملين والمنتجين، والتعاونيات والأساتذة وأرباب المقاولات، أو في إطار الهياكل التقليدية"
"إن إقرار هذه الإمكانيات التشاركية بهؤلاء الفاعلين المتعددين الشاملين للمجتمع المدني بجميع أصنافه يؤسس للإعداد التشاركي لإستراتيجية التدبير الترابي، علما أن “أغلب البرامج تحقق نجاحات أكثر إذا ما ساهمت في دعم المبادرات المحلية، أو إذا كانت على الأقل مخططة ومنفذة منذ البداية بمشاركة من المنتفعين"
غير أن الميثاق الجماعي وان كان يحيل على المشاركة إلا أنه لا يحدد الإطار المؤسساتي الذي من خلاله يمكن أن تسهم الجمعيات في شؤون الجماعة بالإضافة إلى طغيان الغموض والضبابية والعمومية على ألفاظ المشروع وهو ما يفتح المجال أمام تملص بعض المجالس ويرهن الأمر برمته بمزاجية الرؤساء الذين أوكلت لهم صلاحيات واسعة، هذا بالإضافة إلى الارتجالية والتناقض الذي يطغى على قرارات السلطة وغياب سياسة واضحة لدى الدولة تقوم على إشراك كل المؤسسات الشعبية، بما فيها الجمعيات، في تدبير الشؤون المحلية وهو ما يجعل كل الخطابات المناسباتية في مهب الريح.
كما أن التطبيق التشاركي للتخطيط الاستراتيجي تعترضه عدة إشكالات أولها ذلك الذي يتعلق بالممارسة حيث الثقافة والممارسة التشاركية غير متجذرة في المجتمع، وثانيها الثقافة والسلوك الإداري المختزنتان الكثير من الثقافة اللاتشاركية والمضادة لمنطق التنمية المحلية، بفعل تحول مجموعة من الفاعلين الإداريين بتحالف مع المنتخبين إلى لوبي يضغط في اتجاه تحقيق المصالح الشخصية والسياسية.
لعل تجاوز هذا الوضع يتطلب القطع مع حالة التوجس والتخوف الحاصلة بين المجتمع المدني والجماعات المحلية والتأسيس لعلاقة الثقة والتعاون المتبادل في أفق خدمة الصالح العام، وذلك من خلال وضع ميثاق أخلاقي للمدنية يعترف فيه للجمعيات بالمشاركة في التخطيط والتتبع البناء على ما ورد في الميثاق الجماعي وتلتزم من خلاله الجمعيات بالإسهام الفعال في التنمية المحلية بعيدا عن الاستقطاب الحزبي، بالشكل الذي يدعم الديمقراطية التشاركية بموازاة الديمقراطية التمثيلية تماشيا مع ثقافة وسلوك المواطنة وتوسيع هامش الحرية والديمقراطية.
والى جانب الميثاق الجماعي سالف الذكر يمكن أن نشير كذلك إلى تقرير اللجنة الاستشارية حول الجهوية المقدم بتاريخ 10 مارس 2011، والذي كان له أثر كبير على التصور الذي حضر في دستور 2011 حول الجهوية وكيفية إشراك المجتمع المدني في تدبير الشؤون المحلية كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الفصل الأول من القسم الأول من البحث.
2. إشراك المجتمع المدني في تدبير شؤون الجهات
منذ تنصيبها من طرف الملك يوم 3 يناير 2010، وحتى تقديم التقرير للملك بتاريخ 10 مارس 2011، أجرت اللجنة الاستشارية للجهوية استشارات واسعة مع الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية، والمنتخبين، جهويا وإقليميا ومحليا، والمنظمات المهنية، والنسيج الجمعوي، بالإضافة إلى القطاعات الوزارية، وهيأت التنمية والدراسة والتقييم، ومؤسسات المراقبة، وخبراء مغاربة ودوليين.
ومن هذا المنطلق، قامت اللجنة الاستشارية للجهوية الموسعة بتفكير متواصل في موضوعات معروفة عالميا بتعقيدها، كإشكالات تحديث الدولة، وتدبير التراب، واللامركزية واللاتمركز، والديمقراطية والمشاركة، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، والتقطيع الجهوي، وهذه السلسلة من الإشكالات المتنوعة والمتقاطعة لا تقبل الحلول السهلة ولا الوصفات الجاهزة.
إن التصور العام للنموذج الذي تقترحه اللجنة يروم انبثاق جهات مندمجة ضمن الدولة الموحدة، جهات وازنة ودالة، متوفرة على ما تحتاجه من مؤهلات لبناء شخصيتها المتميزة، ومتمكنة من الموارد الضرورية لكي تثبت كفاءاتها وملكاتهما.
ويتطلع التصور العام، الذي تمخض عن أعمال الجنة لأن يجعل من الجهوية رافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، قادرة على مواجهة رواسب التخلف ومعالجة النمو غير المتكافئ، والتفاوتات بين الجهات، وبصورة أعم الإسهام في الإنماء الاقتصادي والاجتماعي المتوازن والعادل للوطن.
كما تطمح التوصيات المقترحة إلى توطيد الفكرة الجهوية الديمقراطية في جوهرها، بتعزيز الديمقراطية التمثيلية، وتوسيع الديمقراطية التشاركية، وفتح أفاق جديدة للمشاركة النسائية، ومنح مكانة بارزة للديمقراطية الاجتماعية ولمشاركة الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين بفتح أفاق مشجعة تجدب هؤلاء الذين عزفوا عن الشأن العام لسبب أو لأخر.
وفي هذا السياق فقد جاء في تمهيد الكتاب الأول الذي يقدم التصور العام للتقرير تحت عنوان "جهوية ديمقراطية الجوهر"
"ترمي المقترحات المدرجة في هذا المحور إلى تقوية التمثيلية والمشروعية الديمقراطية للمجالس الجهوية، والى اعتماد مقاربة النوع، تشجيع النساء على ولوج الوظائف التمثيلية والمشاركة في تدبير شؤون الجهة، والى تنظيم مشاركة المواطنين والمجتمع المدني والقطاع الخاص في النقاش العمومي حول قضايا الجهة وكيفية تدبيرها على الوجه الأحسن.
وبخصوص المشاركة النسائية ووفق مقاربة النوع فقد تم تقديم العديد من القواعد التي تدعم هذا التوجه حيث ثم التأكيد على:
يتم تعزيز الإجراءات الإرادية لصالح مشاركة النساء في تدبير الشؤون الجهوية والمحلية وذلك بواسطة مقتضى دستوري يسمح للمشرع بتشجيع ولوج وظائف الانتداب الانتخابي بالتساوي بين الرجال والنساء.
تعتمد أنماط اقتراع ومحفزات مناسبة لضمان حصول النساء على ثلث مقاعد المجالس المنتخبة للجماعات الترابية ومكاتبها وهيئاتها الأخرى طبقا لأهداف الألفية للتنمية.
يتم الإدماج الممنهج لمقاربة النوع في السياسات العمومية والاستراتيجيات والحكامة على المستوى الجهوي، تصورا وتفعيلا ومتابعة وتقييما.
تؤخذ مقاربة النوع بعين الإعتبار عند وضع الميزانيات على صعيد الجهة والعمالة و الإقليم تبعا للتجربة الجارية على الصعيد الوطني والجماعي في هذا الصدد.
يحدث كل مجلس جهوي لجنة استشارية لإنصاف النوع تضم كفأة من الجنسين، ويكون بوسع هذه اللجنة لدى المجلس أن تعالج من تلقاء نفسها كل مسألة من اختصاصها بغية النهوض بالمساواة بين الرجال و النساء في الجهة.
تشجع الدولة الأحزاب السياسية، لاسيما من خلال التمويل العمومي، على تعزيز مشاركة النساء في العمل السياسي ضمن هياكلها الجهوية، وعلى تحفيزهن لتحمل المسؤوليات الانتخابية والتدبيرية".
من جهة أخرى، وتحت عنوان"الديمقراطية التشاركية" كذلك تم تقديم مجموعة من المقترحات التي تخدم إشراك المجتمع المدني في تدبير الشأن المحلي:
تضع المجالس الجهوية آليات استشارية وفق ما يحددها لقانون من أجل تسيير المشاركة المنظمة والمسؤولة للمواطنين في إعداد المخططات الجهوية للتنمية والمشاريع الكبيرة، وذلك من خلال لقاءات واستطلاعات وغيرها من الأشكال الملائمة.
ينظم القانون طرق تعبير المواطنين عن حاجياتهم وتطلعاتهم فيما يمس حياتهم اليومية ويعني جهتهم، ويدخل في ذلك حق رفع العرائض المقننة.
توضع، في كل جهة آلية للحوار والتشاور مع الجمعيات المؤهلة وفق معايير موضوعية، بقصد تطوير مشاركتها في عمليات التصور والتتبع والتقييم لمخططات التنمية الجهوية.
يوضع، وفق مقاربة تشاركية إطار مرجعي يحدد المبادئ والشروط والأساليب التي تقوم عليها الشراكة مع الجمعيات المؤهلة، مع مراعاة مواقع وأدوار كافة الأطراف المعنية، ويحدد هذا الإطار المرجعي شروط منح و تقييم الدعم المالي للجمعيات الحاملة للمشاريع ضمن تلك الشراكة".
تثبت المعطيات السالفة الذكر الأهمية التي بدأ يكتسبها المجتمع المدني في تدبير الشأن المحلي، وهو ما عمل دستور 2011 على تتويجه عندما نص وبشكل صريح في فصله 136 على: "تأمين التنظيم الجهوي والترابي مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم و الرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة، وفي الفصل 139 "تضع مجالس الجهات، والجماعات الترابية الأخرى، آليات تشاركية للحوار والتشاور، لتيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إعداد برامج التنمية وتتبعها.
يمكن للمواطنات والمواطنين والجمعيات تقديم عرائض، الهدف منها مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله"
يبدو أن الاتجاه العام للتحولات الجارية اليوم في تدبير الشؤون المحلية يسير في اتجاه الربط بين متغيرين اثنين هما اللامركزية والمشاركة في إطار مفهوم الحكامة، فكما هو معلوم اللامركزية لا يمكنها أن تتحقق فعلا إلا إذا كانت مرتبطة بالمشاركة وفق مفهوم الحكامة وليس المشاركة وفق المفاهيم التقليدية البيروقراطية والمتصلة بنظرية مركزية الدولة، كما أزن العكس صحيح تماما، فان المشاركة بمعناها الحكامي لا يمكنها أن تطبق إلا في سياق لا مركزي حقيقي وذلك في إطار علاقة تلازمية تهيئ التراب للمشاركة وتعزز المشاركة في التراب، أي أن اللامركزية في المحصلة هي وسيلة لتنمية المقاربة التشاركية وأن الديمقراطية التشاركية ستكون بدون معنى في غياب آليات لعدم التمركز.
كما أن الارتكاز على مفهوم الحكامة الترابية التشاركية يحقق أهمية علمة، تتجلى فيما يمكن أن يضفيه تطبيقه من معالجة جملة من الاشكالات المتعلقة بعلاقة مرافق الدولة في شخص الإدارة المحلية بالمرتفقين المنتفعين من خدمتها، إذ أن أول إضافة تقدمها الحكامة الترابية التشاركية من خلال تنظيرها للمشاركة الموسعة والشاملة إنها تسمح بالنجاعة، فحينما يعيش أصحاب القرار ويعملون في احتكاك مباشر مع المستعملين فإنهم يخضعون لمراقبة شديدة، كما يكونون ملومين بالاستجابة للطلبات الأكثر حضورا كما أزن الساكنة لها فرص أكثر للمشاركة والتخطيط للمرافق والخدمات.
كما أنه "من المقبول على نطاق واسع بأن اللامركزية تنمي مشاركة الساكنة في اتخاذ القرار، في هذا الأثر تصبح السلطات العمومية أكثر قربا من المرتفقين، أي أكثر يسرا ووعيا بالظروف المحلية، وبالتالي أكثر قدرة على تلبية احتياجات الساكنة"
ففي أدبيات الاتحاد الأوروبي مثلا، تتحدد اللامركزية التشاركية بمضامينهما سالفة الذكر في مرجعين تأسيسيين أساسيين، يتمثل الأول في "الميثاق الأوروبي للاستقلال المحلي" الموقع بستراسبورغ في أكتوبر 1985 أما الثاني فهو "الميثاق الأوروبي للديمقراطية الجهوية" الموقع في ماي 2008 بستراسبورغ كذلك.
فالأول أسس للتزاوج بين الديمقراطية المحلية التمثيلية والتشاركية، فمن خلال المادة 40 المتعلقة بإخبار واستشارة المواطنين التي تنص على ما يلي:

تسهر الجماعات الجهوية على مدى إخبار المواطنين حول أنشطتها وتضمن الولوج إلى الوثائق المتعلقة بالقرارات وبالسياسات التي هي مسؤولة عنها"

تستخدم الجماعات الجهوية في حدود القانون، جميع الإمكانات المتاحة لها لتشجيع المشاركة أو استشارة المواطنين والجمعيات التي تمثلهم في مختلف مجالات النشاط.
وبهذا يتم دعم المقتضيات التشاركية السابقة بأخرى تتعلق بالتأسيس للحق في الولوج إلى المعلومة وإشاعتها، وبتشجيع المشاركة والاستشارة، وبالتأكيد على تمثيلية المجتمع المدني للمواطنين.
أما بخصوص الوثيقة المرجعية الثانية، “الميثاق الأوروبي للديمقراطية الجهوية “فإنها أشارت إلى ثلاثة مبادئ لها علاقة وطيدة باللامركزية التشاركية وهي: المادة مبدأ “الحكامة الديمقراطية” المادة 4 مبدأ “مشاركة المواطنين” المادة 6 مبدأ “الحكامة الجيدة والإدارة الجيدة
أن هذا المزج المبدئي بين مفاهيم الشراكة والحكامة والديمقراطية، الذي أسس لدعم المشاركة وإدماجها في مسلسل التدبير ولجودة المرفق العمومي المحلي يعتبر تأسيسا للامركزية التشاركية.
إذا كان هذا كل ما يتعلق بدور المجتمع المدني في صياغة السياسات العمومية وتنفيذها، يساهم هذا المجتمع من خلال دوره الرقابي في تحصين الفضاء السياسي وتخليق الحياة العامة.

خاتمة:

إن مؤسسات مجتمع مدني متطور تعني أن يتوافر لها وعي كامل ورؤية واضحة، أو ما يمكن أن يطلق عليه موقف نقدي لكي تمتلك تصورا واضحا لخريطة المجتمع ومصادر القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومصادر الضعف، وهي مؤسسات لديها تصور واضح للتغيير الاجتماعي، وتتبنى مواقف الدفاع والمناصرة لمساندة فئات أو قطاعات أو جماعات، سواء على مستوى الحقوق المدنية أو الحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
وهكذا تكون تلك المؤسسات التي لا تتبنى فقط ما يعرف "بالدور الالحاقي " أي معالجة المشكلات بعد حدوثها وإنما تتجاوزه إلى " دور توازني أو استباقي " يسعى إلى تحقيق توازن المجتمع والإسهام في عملية التحول الاجتماعي والديمقراطي.